جدل الذات والطبيعة في «فكرة النهر» للشاعر حسن نجمي

«الوصول أكثر مشقة من الرحيل»
سعود السنعوسي

يحقق الشاعر حسن نجمي في «فكرة النهر»، حلم عبور النهر مرتين، خلافا لشذرة هيراقليدس «لانستطيع أن نعبر النهر مرتين»، ويضيف فلوطرخس «لأن مياها جديدة تتدفق فيه»، باعتبار الحركة المستمرة، وهذا ما أتاح للشاعر العبور المستحيل مرتين:
-1 العبور الأول: في زمن الكتابة، وقد تتخلق وتؤرخ لطبيعة الشاعر، من الطفولة وعفويتها وبراءتها، إلى خيوط السياسة والحرية، دون مكر، مما يفسح المجال لمرور ما هو أيديولوجي، إلى النص بدون مقص، إلى الذات، وربطها بالعالم والواقع، تبعا لمراقي الإبداع، من الطبيعة إلى الثقافة، المتعددة بإحالات الشاعر، ومثاقفته، زيادة على تجاربه في مجالات جمعوية وسياسية وثقافية….الخ، مع صيرورة وسيرورة هذا المرور، تتخمر «فكرة النهر «وتتبلور.
2 – العبور الثاني: من الحلم إلى النص، لأن الشاعر قبل الكتابة، يكتب النص / النصوص في حلمه وذاكرته، ويصبر صبر أيوب، حتى يينع النص، في الوقت الملائم، ويعانق البياض، برغم ألم الكتابة، لتحقق «فكرة النهر» الممتد من المنبع إلى المصب ، كسلسلة مطردة نفسيا وإبداعيا، إضافة إلى تراكم إبداعي سابق. تنبع «فكرة النهر»، وتستغل مجموعة من الإبدالات الإبداعية، العالقة بعالم الشعر وشعريته، كي لا يصادف الشاعر أثناء جريانه الشعري أي عائق، تماهيا مع النهر، الذي يداري أي عارض، بالقوة أو الحيلة . فكما النهر يطول أو يقصر، كذلك نهر الشاعر، عن طريق الشذرة، أو الجملة القصيرة أو المقطوعة ،وكل هذه الطرق تفسح المجال للشاعر وتمنحه وقتا للإطلالة من شرفة الذات.
تبدأ «فكرة النهر «من نقطة بسيطة تسائل الشاعر الراحل سركون بولص، بدءا من الاستهلال «كل نهر، في البدء، كان قطرة «إلى تساؤل داخل النص الأصلي «في الشرفة أنظر صوب النهر ، وسركون يسألني، هل هذا نهر آبائك ؟ أقول: ربما، ولا أعرف هل كان لآبائي نهر؟ (كانت الصحراء مهنتهم والحياة) أعرفك، أيها النهر، كنت قطرة، ثم فضت بالدمع» ص9، إضافة إلى البداية بكل من جابس، وكلارييل أليغريا ، ثم رغبة الشاعر في أن يسمى النهر حسن نجمي ، أي الذوبان في النهر وهذا ما برع فيه الشاعر، حيث اختار عنوانا يجمع بين «فكرة» الشاعر وحدسه ورؤياه، و«النهر» الحقيقة، لهذا جمع بين المجرد والملموس، وجمع بين المشابهة والمجاورة في آن، مع خلق المسافة الممتدة من الشرفة إلى النهر..هذه المسافة – كما يسميها كمال أبو ديب – مسافة التوتر حيث جدل الذات والوجود زمنيا للوصول إلى سراديب المجهول . إذن نحن في فضاء مائي، يتطلب احتمالين :الغرق أو النجاة ، وإن كان الشاعر يفضل الغرق مجازا في جوهر الماء لما يمثله من تماه بينه وبين النهر، أو بين الشعور واللاشعور، وهذا جانب آخر، يتطلب دراسة عميقة إذا شاء الوقت.
التساؤل بين الشاعر وسركون بولص، لم يأت جزافا، وإنما نتيجة لصداقات ونقاشات، لكن هذه «ربما» بين الوهم والحقيقة تأخذنا إلى حيث «حضور الماضي في الحاضر، ومفهوم الحس التاريخي الذي تحدث عنه إليوت، وأسس له فلسفيا نيتشه في رؤيا العود الأبدي، ليطوره لاحقا فرويد في نظريته عن عودة المكبوت، وصراع الأنا مع الهو، أو الإبن مع الأب، بحثا عن ذات شعرية مستقلة «1، باعتبار أن الحس التاريخي يعني إدراك المحدود من الزمان وما لا حدود له، أي باستحضار التراث برمته، ولكن الكتابة تكون بعيدة عن المجايلة، ليتم تطوير ذلك لدى نيتشه في العود الأبدي le retour éternel، أي خلود الحياة بين عالمي الصيرورة وعالم الوجود الثابت، وقد اقتبس نيتشه الفكرة من هيراقليطس الذي أعطى الأهمية للنار، لأنها العنصر الأساس للكون عنده، لنصل في نهاية المطاف إلى فرويد حيث عودة المكبوتretour de refoulé، حيث يعتبر أن القلق يحدث الكبت، ويدفع كل المكبوتات إلى اللاشعور، مما يخلق صراعا.
ليس فتح هذا القوس اعتباطا، وإنما لتوضيح أثر القلق جراء الإبداع، حيث الذهاب جيئة وذهابا، من الآني إلى مراحل الإبداع، للبحث عن موضوعات غير مطروقة أو مطروقة ،ولكن يتم تناولها بطريقة حداثية، وهذا ما دفع الشاعر إلى «فكرة النهر»، من المنبع إلى المصب ، بطريقة مستقيمة وأفقية، حسب ذاكرة الماء، وذات الشاعر ورؤياه «أطل اليوم أيضا، لا أعرف كيف أخرج من نفسي أعرف أنه ذاهب إلى هناك (لا بد أنني أشير بسبابتي)، ليغرق من هنا.. عيناي على النهر كل يوم تسبحان في هذا السطر من رصاص كل يوم هذه الشمس جديدة «ص 13,12. إطلالة الشاعر إلى النهر، وإلى نهر بذاته، وإلى نهر الكتابة، والمصب الذي يصل إليه نهر الشاعر، هي «هذه الشمس جديدة»، أي أنها شمس المعاناة والغياب والحضور لخلق الترقب والشوق، وهذا ما يذكرنا بالشاعر أبي تمام : فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد التجدد في الغياب والحضور، والشوق في تغير المضمون، وقد فرض شكله، الذي يستوعب تغير ثقافة الشاعر وتجاربه في الحياة لأنه يعكس قلق التأثر ويجعل الشاعر متميزا عما سبقه من مراحل شعرية بخلق لغة جديدة تستوعب حداثة العصر، وتعبر عنها بكيفية جمالية وإبداعية.
هل بقي الشاعر محايدا إزاء النهر وتركه يسير دون أدنى اهتمام؟
سؤال يسير في اتجاه إجابة عكسية، وإلا ما الداعي لكتابة «فكرة النهر»؛ إن الشاعر يتماهى ويتصادى ويسقط تأملاته على النهر، أو يتصادقان انطلاقا من رؤياهما :»كن هادئا لا تغر من ظلال الزرازير الأنهار لا تطير «ص 14 . تصبح المقاطع الشعرية عبارة عن تأملات وحكم مستمدة من تجارب الشاعر، زيادة على القيام بعملية التشخيص :»كن حصيفا لوح بيديك وامض واطفئ رغبتك في أن تقف كشجرة حور الأنهار فقط، تركض «ص14 . لاتفكر في الوقوف عموديا ،اكبت هذه الرغبة، مذكرا إياه بأن «الأنهار فقط تركض؛ وانعدام الثقة في الخرير، ولو أنك فاعله: «لاتثق في خريرك يحجب عنك أساور البنات وسمر العشاق على الضفاف وستلتفت عنك غبطة الخطى في الأغاني «ص14. ثقتك – أيها النهر – في الخرير، تبعد الانتباه عن إيقاعات الأساور وسمر العشاق، وتصبح مجرد خرير دون التمتع بالخطى، وهذا الانفصال وفق معطيات مستمدة من الحياة الإنسانية، يعقبه اتصال قوي: «سر وحيدا كسطر حر في قصيدة.. كتردد صغير على حافة خريطة في دفاتر التلميذات.. مر على منعطفات القصب في حلمي ولا تنسني» ص14. هكذا تتحقق شعرية القصيدة الحرة، في الحلم وعدم النسيان، لربط علاقة قوية بين النهر والشاعر، وعبر القلق الوجودي من حيث الطبيعة والثقافة، ومن حيث الأسئلة والصفات، هناك مصب آخر أعمق: «أسمع خرير الماء هنا قربي، لا، النهر يعبرني الآن. نهر يصب ماء في نهر لقد حفرت له أخدودا داخلي، وإن كنت نسيت «ص15، يتم التمازج بينهما،هل يعبره النهر ويتجاوزه؟ بالعكس ،لأن الشاعر يحفر أخاديد داخل الذات والماء بطبعه ينسرب، من هنا يتقوى النسيان. ففي المرحلة الأولى يرجو النهر ألا ينسى، لكنه يتذكر الآن بأنه قد نسي. يتغير شكل النهر، عندما يقترب من المصب، ويتغير شكل الكتابة حيث تفيض السطور وتغطي البياض، لأن الماء يندمج مع البحر، ويندمج ماء النهر بماء الشعر، وفي هذا التغير، يرتفع البناء الدرامي للنص: «…ثمة مياه كثيرة في البحر. ما من حاجة لألتحق بهذا المحيط الزاخر، أفضل القيلولة قرب الحقول…» ص144، هذا الندم والأسف، ينتج عن إسقاط الذات على النهر، مما يجعل النص يتمنى الاستدارة : «قال النهر أريد أن أعود «ص148 إلى النبع؛ من هنا يتم استيعاب النص /القصيدة ،التي تشكل – بدورها- نهرا تبعا لتنوع الأحداث والمواقف والحالات النفسية، مما يربط علاقات وثيقة مع المتلقي، وهذا التنوع يتجلى في انكماش النص ليصير شذرة مفعمة بالحكم ، أو يندفع بقوة لمسايرة النهر وكأنه يحمل آلة تصوير تتعقب ما تحفل به الضفتان، ثم يتوتر أمام الأسئلة الكبرى المرتبطة بالكينونة.
هذا التنوع على مستوى الذات وقلقها،وفرحها وانقباضها، وقلق الكتابة، وتعدد التأويلات، تبعا لثقافة الشاعر وإحالاته، كل ذلك ساهم في خلق إيقاع داخلي ، يجسد طبيعة الزمن وسيره، والحالة النفسية أثناء الكتابة، وهذا يؤكد بحث الشاعر عن أشكال كتابة حداثية، تساير ما هو كوني وتراثي ليصبح النص بلوريا، ترى وجهك فيه سواء من المنبع أم من المصب عبر الحلم والكتابة والزمن.

الهامش:

1 – هارولد بلوم ،قلق التأثر، نظرية في الشعر، ترجمة وتقديم، د عابد إسماعيل، دار التكوين، الطبعة 2019 ،ص5
فكرة النهر: حسن نجمي، دار خطوط، 2020.


الكاتب : محمد عرش

  

بتاريخ : 08/01/2021