إبداعية الأدب وسلطته

 

الفكر في الأدب مختلف عن كل أصناف الفكر الأخرى، إنه فكر المتعة، وأجمل المتع ما كان لعبا، وليس لعبة، أي ما لانرجو منه أية منفعة مادية، فليس تجارة، ولايشبع بطون القراء. إنه فقط مصدر ابتهاج، وليس معنى ذلك أنه مفرح
بالضرورة، فالمتعة الجمالية لاتتحقق، فقط، بالفرحة، بل حتى بالحزن، عندما تكتئب حزنا على شخص أو من قضية ما فإنك تجدد انتماءك إلى الإنسانية جمعاء، أليس هذا الشعور منتهى السعادة؟هذا ما أعتقد. إن الأدب يجعل من لحظة المتعة وعيا، وربما من الوعي متعة، رغم أنه يخدش الوعي الفردي والجماعي، ويؤجج فيه الجموح والرفض للمعتاد في القول والحياة. من هنا تبدأ سلطة الأدب، لكنها سلطة لاتستمد وجودها من السلط المعتادة، ولا من عنفها، ولا من سطوة الفكر الرمزية. سلطة الأدب إنصاتٌ عميق لحاجاتٍ لا أحد
يريد الا عتراف بها. إن هذا المبتغى ليس له درب واحد، بل هناك طرق اختلفت باختلاف الحضارات، و تفاعلت فيما بينها، بل تلاقحت بدون أن تكرر ذاتها بتقليد الغير فيما لا يمكن اعتباره إبداعا وابتكارا، بل مجرد تشبه
به، وإن كان التقليد يعتبر وسيلة للتعلم، فإنه في مجال الإبداع يعتبر استلابا وتشبها روحيا بالمختلف أو محاولة للتماهي معه، فبأية حجة يمكننا الدفاع عن فكرة تقليد آداب الغرب والانتصار لنموذجه، واعتباره أقصى
درجات التطور الإبداعي؟؟ وهل رفض ذلك يعني العودة لماضينا الأدبي بغية تكراره والحفاظ على فنياته؟
1 – إنسانية الأدب:

إنسانية الأدب فكرة صحيحة، فكل إبداع حتما هو موجه للإنسانية، إذ لم تعد اللغة عائقا بين المواطن الكوني، وقد فرضت العولمة تصور العالم كقرية صغيرة، وغدت حاجات الناس متشابهة بشكل غريب، فالمشترياتُ في العالم و المستهلكاتُ صارت متطابقة، والنقل سَهَّل إيصال هذه المتطلبات الحيوية لكل بقاع العالم بما فيها القرى النائية، فهل الإبداعات الأدبية سلعة؟ وهل تلبية الحاجات الفنية الروحية هي نفسها؟ فإن كان الغرب نموذجا في الصناعة والحرية و حتى الكرامة الإنسانية، و العلوم خصوصا، فهل ذلك مبرر لأن نبدع كما أبدع روائيوه و أصحاب الفكر فيه؟ أليست الأذواق باعتراف فلاسفته مختلفة حتى داخل الحضارة الواحدة؟ فكيف نريد افتراض قيم جمالية موحدة تبريرا لتكرار نماذجه الأدبية؟ ألا ندرك أنه هو نفسه يساعد على ذلك بتتويج أعمالنا الأدبية التي كتبت على مقاس مدارسه النقدية، بينما ترفض ثقافات الغرب المختلفة عن بعضها جزئيا تسويق نموذج فرنسي أو أمريكي بحجة انمحاء الحدود باسم القيم الإنسانية المشتركة.

2 – ثقافية الأدب:

ينتمي الأدب حتما للثقافة، والحضارات تتمايز عن بعضها باختلاف ثقافاتها، مع ضرورة عدم الوقوع في الخصوصية المغلقة، خصوصا بتبريراتها الدينيةالمتعصبة، و مادام الأمر كذلك، فالأدب تعبير عن حاجة وجدانية تختلف باختلاف العصور و الثقافات، و لم تستطع أية حضارة فرض نموذجها الثقافي إلا على الحضارات المنهارة و المُجْتَثَّة بفعلٍ عنيف عصف بتراثها الفكري و الفني والأدبي، أمَّاوهي موجودة و حية فلها حتما مقوماتها الأدبية، وبصيغةأخرى، فبدل أن أقرأ المقلِّدَ لغيره في الأدب الغربي أفضل الذهاب للجذور بدل
الفروع، مادامت اللغات لم تعد تشكل حاجزا، وإن حدث ذلك فهناك اكتشاف قديم
اسمه الترجمة، و هي مرحلة تمر منها كل الحضارات حتى لا تسقط في التكرارالفج لما يبدعه الآخرون، وفي هذه الحالة فإن الصور غير الحقيقية سرعان ماتنسى و تضمر حقيقتُها بدون أن تخلف أي أثر يذكر، ولتلافي هذه الحالة لابد من جهد نقدي يستحضر درجات حضور الغربي أدبيّاً في الإنتاجات العربية والتدقيق في قدرته على الاستفادة مما هو مغاير بدون تكراره مشوَّهاً أو مخفيا بسذاجة أدبية مضحكة.

3 – التفاعل التأصيلي:

هي عملية واعية يمارس بها الأديب قراءاته لما جَدَّ في عالم الإبداع العالمي بدون اختزال ذلك في لغة أروبية واحدة، بل حتى بتجاوز مركزية الغرب نفسها، فهناك حضارات أخرى لم تكتشف كليا إبداعاتها الأدبية، والأدباء
الغربيون أنفسهم يبحثون فيها أنتروبولوجيّاً وحتى أدبيّاً، فالأديب لا يخنق نفسه، لكنه يؤرِّقها بما يستشعره بعد أن ينهك نفسه أدبيا، ويشعر أن خياله ضاق، وعليه أن ينعشه بإضافات جديدة وأصيلة، ولا ضير من إطلالات على تراث الغير الأدبي بدون أي شعور بالدونية أو التفوقية المغايرة التي نعاني
منها خصوصا في المغرب مع الإشادة المفارقة بما ننعته بالآداب المغربية، روايةً وقصة وحتى شعرا، بل هناك من يفاخر بمصادره الغربية التي
استوحى منها نموذجه في الكتابة الأدبية بدون تمهل أو حتى خجل.

خلاصات:

التميز عندما نرغب في تحقيقه في زمن قياسي، و نعتقد بفكرة حرق المراحل، نسقط في تكرارية قاتلة قد تعطل بناء الذات الأدبية وتسقطها في عقم لا يبدع نموذجه الخاص، بل يحِنُّ إلى الماضي منه، أو يستورد الحديث ليؤثت به مشاهده، رغبة في تحقيق عالمية مختزلة بدرجات تحنيطِ جديدٍ أو دفنِ قديمٍ حتى، لو كان حيا.

كاتب روائي


الكاتب : حميد المصباحي

  

بتاريخ : 03/02/2021