الوجودية في أدب نيكوس كازنتزاكس

 

ما الذي يصلح لجعله قانونا تتبعه المجتمعات البشرية؟ تمحورت المنظومات التي تحكم المجتمعات حول ثلاثة أسس:
الأول: وجود إله للكون أنزل قوانينه جميعها الطبيعية والبشرية حتمية ومكتملة يجب علينا اتباعها. أما الثاني: وجود نظرية اجتماعية بقوانين وضعية تفسر مادة الكون وتفهمها وتحاول السيطرة عليها وتضع دساتير للعنصر البشري يحتكم إليها. والثالث: منظومة الذات الفردية التي تتكون من عقل وشعور وتتبعهما في تفسير المادة والظواهر، وتحتكم إلى ذاتها في الحكم فيما يخص العنصر البشري.
سيقتصر هذا المقال على طرح إشكالية العنصر البشري دون التطرق لمشكلة فهم الظواهر الطبيعية، كما قدمها الكاتب نيكوس كازنتزاكس 1883-1957.
نيكوس كازنتزاكس كاتب يوناني الأصل، ولد في جزيرة كريت، وهو شاعر ملحمي، وأديب روائي أبدع في مجال أدب الرحلات، واعتمد كثيرًا في أعماله على الأساطير القديمة التي صاغها بأسلوبه الخاص. درس الحقوق في جامعة أثينا، ثم تتلمذ في الفلسفة على يد برغسون في باريس. نشر أعماله الأولى في اليونان، ثم بدأ الترحال فذهب إلى إنجلترا، وإسبانيا، وروسيا، ومصر، وغيرها، ووثّق هذه الرحلات في إنتاجات أدبية متميزة.
انخرط في الحياة السياسية عام 1946، وعيّن رئيسًا للمجلس الأعلى للجزب الاشتراكي، وبعدها وزيرًا، ثم استقال لاستكمال عمله الأدبي. أدار مكتبًا تابعًا لليونسكو لترجمة الكلاسيكيات الإنسانية، ثم انتقل للآنتيب وعاش فيها حتى وفاته.
خاض نيكوس كازنتزاكس في المنظومات الثلاث سالفة الذكر في ثلاث روايات أفرد كل واحدة منها لبحث إحداها، وهي «الإغواء الأخير للمسيح»، «المسيح يصلب من جديد»، «زوربا».

الإغواء الأخير للمسيح

الإغواء الأخير للمسيح تمثّل علاقة العنصر البشري مع الإله، وهي علاقة عمودية تحتم على الإنسان أن يلجأ في فهمه للكون وما فيه، وفي تفاعل بعضه مع بعض، إلى قوانين مُنزلة. هذه العلاقة العمودية تجعل الخير والشر مرتبطًا بأوامر الإله ذاته التي يبلّغها للعنصر الأدنى وهو البشري عبر الرسائل الخاصة التي يصطفي لمهمة نقلها إنسانًا بعينه هو النبي أو الرسول. بعد تبليغ الرسالة يكون المؤمنون بها ملزمين بقوانينها، فالتعامل مع الآخر مبني على ما هو خير وما هو شر تبعًا لهذه الرسالة. وكازنتزاكس يذهب إلى الأقصى، حينما يختار الرسول نفسه لدراسة هذه المنظومة، فيجعل المسيح بطلًا لروايته، ولا يقص سيرة المسيح كما هي، بل يقصّها من منظورٍ آخر تمامًا. يقصها من منظور المسيح نفسه في محاولة لفهم الحالة الأولى للإيمان، الإنسان الذي آمن وامتثل تمامًا لأنه رأى الحقيقة بنفسه، فلا يترك مجالًا للتشكيك بصحة الرسالة أولًا، وثانيًا يخوض في إشكالية التواصل العمودي بين «إله» و«إنسان» ليختبر حالة الصراع بين النفس البشرية الضعيفة بطبيعتها لعدم امتلاكها للمعرفة الكاملة ولكنها في ذات الوقت تنزع لذاتها ولا تكترث بجهلها، مصرّة على أحقيتها في التجربة والحكم، وبين استسلام هذه النفس التي لا تستطيع التخلص منه أمام الحقيقة المطلقة المقدمة له. يبدأ الكاتب روايته بمشهد النجّار الذي يصنع الصلبان، ليجعله المسيح بذاته. ويروي كيف أن النبي يرى أن إيمانه ثقيلٌ، ويحاول قدر الإمكان الهروب منه لإدراكه مدى صعوبة تحقيق الإرادة الإلهية على الأرض، فيفضل بداية أن يهرب إلى المعسكر الآخر وهو معسكر الشر، فيقبل أن يصنع صلبانًا لصالح الاحتلال الروماني آنذاك، يُصلب عليها الثوار ومدّعو النبوة، يعتقد بهذا أنه يفعل خطيئة لا يسامحه عليها الرب فلا يحمّله رسالته، فلم يفلح بذلك، ظل يرى طيف الوحي حوله في كل مكان يستعد لتبليغه كلمة الرب، ثم يحاول الهرب من قريته فيذهب إلى قرية بعيدة جدًا سيرًا على الأقدام، وفي نيته الاعتكاف في الدير. وهناك يدرك أن لا مفر، فيذعن إلى استلام الرسالة ونقلها، وبعد إذعانه إلى كلمة الرب وحمله لها، يصطدم بالنفس البشرية التي تتلقى هذه الرسالة عنه. ويقدم الكاتب هنا رؤية عامة للمجتمع بينما يضع تركيزه على من آمنوا معه خاصة الحواريين، تلامذة المسيح، ليكشف عن النفس الإنسانية وكيف أنها مهما آمنت وعملت فإن الاختبار الأهم هو مواجهة هذه النفس لذاتها حين يشعر الإنسان بالخوف، والضعف، والقوة. ويروي كيف أن الإنسان مهما حاول فلن يتخلص من طبيعته الأولى التي وُجدت فيه، ويبين ذلك حينما يتخلى أحد التلاميذ (يوحنا) عن معلّمه خوفًا، وآخر يغدر به غيرة وحسدًا (يهوذا الاسخريوطي).

المسيح يصلب
من جديد

أما في رواية المسيح يصلب من جديد، فيقفزالكاتب ليصل إلى زمن بعيد لم ير البشر فيه المسيح، ولكنهم آمنوا به بعد أن تم تناقل الرسالة. وفي نفس الفترة الزمنية يعرض ظهور أيدولوجيات وضعية ترفض الرسالة المنقولة كما وصلت، وتحل محلها رسالة أخرى تتكلم عن العدل والمساواة والحرية، وتتكلم عن علاقة أفقية بين الإنسان والإنسان، يتم تبعًا لها تحديد ما هو خير وما هو شر. تعرض الرواية سيرة لشاب صغير تم اختياره لتمثيل دور المسيح في مسرحية دينية، من قبل الكنيسة، لينقلب هذا الشاب فيما بعد إلى المناداة بأفكار الشيوعية على أنها رسالة المسيح. هذا الشاب يوحّد المعاني الخاصة في القيم «الحرية، العدالة، المساواة» بين الشيوعية والمسيحية، ويضفي عليها الصبغة القدسية، لتصبح الأيدولوجية الوضعية من حيث هي منظومة قيميّة من الأساس رسالة مقدسة. في الرواية يكون الشاب شابًّا لطيفا يعمل في رعي الأغنام يقضي معظم وقته في الجبل، مؤدبًا تبعًا لما يجب أن يكون عليه فتى راع مع علية القوم من الأغنياء والوجهاء. بعد اختيار هذا الشاب للعب دور المسيح في مسرحية دينية نظرًا للتشابه الشكلي بينه وبين المسيح كما هو في الأيقونات، وتشابه طباعه الشخصية مع طباع المسيح كما تُروى في سيرته؛ زاهد لطيف متسامح. يتنبه الشاب الصغير إلى حجم الاختلاف بين سيرة المسيح وممثلي كلمته في الكنيسة من قساوسة ووجهاء، حيث أنه كان بعيدًا عنهم يقضي معظم وقته في الجبل، ولا ينزل إلى القرية إلا في قدّاس يوم الأحد، بينما أثناء التدريب على المسرحية عاش بينهم واطلع على أفعالهم، وفي ذات الوقت اطلع على سيرة المسيح. إلى أن تصل الرواية إلى لحظة الذروة عندما يأتي القرية أناس مهجّرون من قرية أخرى جياعًا وعطشى، فيكون رد وجهاء القرية وقساوستها على هذا الحدث، التخلي عن هؤلاء الجياع خوفًا من مشاركتهم أراضيهم ورزقهم، مما يجعل هؤلاء المهجرين يلجأون إلى الكهوف في الجبال المحيطة، ويتحصّلون على قوتهم عبر الصدقات القليلة التي تصلهم أو من سرقة الطعام ليلًا.
في هذه الأثناء ينضم إليهم الشاب ويساعدهم، وحينما يرى أن هذه الطرق ليست حلًا، ولا تكفيهم قوت يومهم، حتى مات بعضهم من الجوع، ينادي معهم بثورة على الأغنياء يطالبون فيها بالمشاركة في العمل في الأراضي الزراعية مما يمكنهم من تأمين احتياجاتهم، حتى تنقلب الأمور إلى حرب بين الطرفين. هنا يبدأ طرح الفكر الشيوعي، ويناقش الكاتب الأفكار الشيوعية، وكيف تتم ترجمتها في عقول البشر، من خلال شخصيات الرواية باختلاف نفوسهم. فيبين وجهة نظر الأغنياء والوجهاء، ويركز على بيان ردود فعل الناس البسطاء، وكيف تحتكم ردود الفعل هذه لنفس كل منهم، من خلال الأدوار التي لعبوها في المسرحية الدينية، فيكون بانايوتي آكل الجبس، الذي مثل دور يهوذا هو الجاسوس الذي يحسد مانولي، الذي لعب دور المسيح، لأنه لعب دور المسيح!


الكاتب : ليلى العاجيب

  

بتاريخ : 06/02/2021

أخبار مرتبطة

‬بعد ربع قرن‮ ‬على العهد الجديد،‮ ‬لو سألنا السي‮ ‬محمد‮ ‬ما هو أهم شيء تغير في‮ ‬المغرب أو ما الذي‮

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

ضرار نورالدين كائن متعدد : شاعر ، مترجم ، موسيقي وكاتب قصة للأطفال ، كما في جبته العديد من المشاركات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *