أدب الاعتراف 2 1- : رواية «الغريب»: عبث ضد العبث

«الضمير المذنب يجب أن يعترف، والعمل الفني هو اعتراف».(1) يقول كامو عبارته هذه، معتبرًا إياها الموضوعة الأساسية لبعض من رواياته الهامة. إلا أن كامو لا يتحدث عن الذنب أو الضمير الشخصي للفرد الواحد فحسب، إنما هو يقصد ضميرًا جماعيًا، يغذيه ذنب جماعي أيضًا، من شأنه أن يقضي على الفرد الذي يمتلك الشجاعة لمواجهته وحيدًا. ولعل أحد أهم الأمثلة التي تبرز عبرها هذه الموضوعة، هي روايته «الغريب» (1942). فكيف برز الاعتراف في هذه الرواية؟ وما هي أصوله؟
يشير البروفيسور البريطاني جيرمي تامبلينغ (2) إلى أن سؤال الله الأول للإنسان كان استجوابًا حول الخطيئة، قابله اعتراف كاذب من الإنسان: «المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت». بهذا، ارتبط كل من الذنب والاعتراف بأصل وجود الإنسان ومسيرة حياته، خصوصًا في التراث اليهودي المسيحي في الثقافة الغربية.
إذن، يسعى المعترف دومًا إلى التطهر من آثام يحتّم عليه وجوده ارتكابها، وهكذا نشأت فكرة سر الاعتراف في الكنيسة الكاثوليكية، ففي حين يرفض بعض أتباع المسيحية، وهم البروتستانت، مبدأ الاعتراف أمام كاهن لا يعتبرونه ممثلًا عن الإله، ولا يجدون نصًا واضحًا يؤهله لهذا الموقع في كتابهم المقدس، يرى البعض الآخر أن الكاهن هو العنصر الأساس في عملية التطهر من الخطايا المرتكبة، وبالتالي لا يكفي الاعتراف أمام الله وحده؛ إذ ينبغي على «مرشد روحي» سماع اعتراف المذنب بغية الغفران له، فهو الفرد الممثل عن الجماعة الواحدة التي ينبغي أن تصفح عنك بدورها أيضًا.
وقد نذهب إلى القول إن انعكاس فكرة الذنب والخطيئة بمفهومهما الديني على الأدب، تجلّى في الحاجة أيضًا إلى الاعتراف الأدبي، إن صح التعبير، الذي دخل بقوة على الأعمال الأدبية بدءًا من التصوير الساذج البدائي للخطيئة، كما في المسرحيات الأخلاقية في القرون الوسطى، وصولًا إلى تصوير الخطّاء ذاته تصويرًا واقعيًا بشريًا، لا مثاليًا. ولمّا كان صراع الإنسان مع الشر يتمثل في صراعه مع الخطايا والشياطين، كجزء منفصل عن الكيان البشري، تدفعه إلى المعصية والخطيئة، كساحرات ماكبث، بات الآن الصراع داخليًا، يكشف عن شياطين النفس البشرية؛ آرائها وأفكارها ومشاعرها، كالغضب، والعنف، والعزلة، والقلق، التي رافقت ظهور الذات النهضوية، حتى استقرت في الأدب المعاصر وشكّلت موضوعًا رئيسًا له.
مصطلح الاعتراف في الأدب

حدد معجم المصطلحات الأدبية والنظرية الأدبية ثلاثة اتجاهات اتخذها مصطلح الاعتراف في الأدب؛ أولها الأدب الاعترافي الذي يتسم بالطابع الذاتي الشخصي لوصف وإظهار التجارب الشخصية ومجموعة الأفكار والمشاعر والحالة الذهنية والجسدية والروحية لشخصية ما.
والثاني هو الرواية الاعترافية، التي عرّفها المعجم بوصفها مصطلحًا غامضًا ومرنًا، يصف نوعًا من السيرة الذاتية، خيالية كانت أم واقعية، تُكتب بأسلوب راوي الشخص الأول، والتي قد تبدو أنها محاولة لكشف الكاتب لذاته، في حين أنها قد تفعل العكس تمامًا؛ إذ قد يتقمّص الكاتب فيها دور شخصية أخرى. وقد أصبح هذا النوع من الرواية، في السنوات الخمسين الأخيرة، هو الأكثر شيوعًا وانتشارًا.
أما الأخير؛ فيتمثّل في الشعر الاعترافي، الذي يجادل المعجم حول تحديده؛ إذ يبدو أن الشعر بشكل عام، خصوصًا الغنائي منه، يتخذ طابع الاعتراف والتعبير عن حالة الكاتب الشعورية والذهنية ورؤيته للحياة، إلا أن بعضه فقط يتميز بكونه أكثر كشفًا لذات الشاعر، وأكثر تفصيلًا لمشاعر الألم، الحزن، القلق والفرح. وقد ظهر هذا النمط من الكتابة الشعرية في أمريكا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وارتبط بشعراء مثل روبرت لويل، وسيلفيا بلاث، وآن سيكستون، وو. د. سنودجراس. أمّا الأمثلة السابقة والسبّاقة حول الأنواع الأخرى، فتعود إلى 400 ميلادية، مع كتاب اعترافات القديس أغسطين، الذي يمثّل رحلة انتقال هذا الأخير من الخطيئة وفجور الشباب إلى اعتناق المسيحية وانتصار الروح على الجسد، إضافة إلى كتاب «اعترافات ملتهم أفيون إنكليزي» (1822)، لصاحبه توماس دي كوينسي، الذي يصف فيه مرحلة مبكرة من حياته وإدمانه التدريجي على المخدرات، وكتاب «اعترافات» (1782)، وهو السيرة الذاتية لجان جاك روسو، وصولًا إلى كتاب «إذا مات» (1935) لأندريه جيد.
قد تشكل رواية «الغريب» لألبير كامو واحدة من أهم النماذج عن أدب الرواية الاعترافية المعاصرة، إذ يوجد فيها راوٍ واحد، يسرد القصة بأسلوب الشخص الأول، وهو يمر بتجارب شخصية عديدة، تجلب له معرفة، لم يكن يمتلكها سابقًا، عن ذاته. من هذا المنظور، تشترك «الغريب» مع الرواية الاعترافية بعناصر أدبية عدّة. كما أن بعض النقاد يربطها بنوع رواية الاعتراف في المحكمة، حيث تُستخدم محكمة لكشف قصة البطل، والعلاقة بين العدالة والمجتمع. وتهدف المحكمة إلى نزع اعتراف، أو توضيح، أو كشف، للشخصية الرئيسية، كرواية «المحاكمة» لفرانز كافكا. كما أن بعض النقاد يصنفها تحت فئة أدب اليوميات، التي تشكّل رواية دستويفسكي، «الإنسان الصرصار»، أو «رسائل من أعماق الأرض» خير مثال عليه. أدب الاعتراف 2- 1

تقسم رواية «الغريب» إلى قسمين: يصوّر الأول مجموعة من الحوادث العبثية التي تعكس شساعة الهوة بين الفرد والعالم، وينتهي بارتكاب جريمة قتل. أما القسم الثاني، اللاحق لوقوع الجريمة، فيصوّر محاولة المجتمع إعادة الروابط بين هذا الإنسان وعالمه، وذلك عبر اختلاق المعنى الكامن وراء أعمال وسلوك ميرسو. وهو الأمر الذي يبدو سخيفًا وعبثيًا إذا ما وُضع إلى جانب رفض ميرسو التام للشعور بالذنب تجاه جريمته. فأنّى لمجرم لا يشعر بالذنب أن يعترف؟ لقد حدّد دينيس فوستر في كتابه «الاعتراف والتواطؤ في السرد» السمة المميزة للنصوص الاعترافية، ألا وهي أنها تُروى من قبل شخصيات استهلكها الذنب، ما يدفعها إلى الحديث عنه. إذا نظرنا إلى هذا الأمر بتعمق، سنجد تشابهًا كبيرًا بين الدور الذي يلعبه القارئ عند قراءته رواية الغريب، ودور الكاهن الذي يمر طريق المغفرة عبر حجرته الصغيرة في كنيسة ما، إذ طالما ارتبط موضوعَا الذنب والبراءة في كتابات كامو ارتباطًا وثيقًا باتجاهين متعاكسين في فكره، أولهما هو الأفكار والتأثيرات المسيحية والوثنية.


الكاتب : لينا الروّاس

  

بتاريخ : 08/02/2021

أخبار مرتبطة

‬بعد ربع قرن‮ ‬على العهد الجديد،‮ ‬لو سألنا السي‮ ‬محمد‮ ‬ما هو أهم شيء تغير في‮ ‬المغرب أو ما الذي‮

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

ضرار نورالدين كائن متعدد : شاعر ، مترجم ، موسيقي وكاتب قصة للأطفال ، كما في جبته العديد من المشاركات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *