صرخة من تحت الماء
خديجة مشتري
في لحظة، تهاوت أحلام وسقطت حيوات وأسدل ستار من الحزن على أفئدة وقلوب فجعت برحيل ذويها دون سابق إنذار…
خلال لحظات، شطبت أسماء من الوجود، أصحابها كانت عروقهم قبل وقت قليل تنبض حياة وحيوية ونشاطا، في لحظات أصبحوا أثرا بعد عين، ضحايا الفساد والغش والاستهتار…
في لحظات، بدأت الوعود بالقصاص وإنزال العقوبات وتحديد المسؤوليات تجاه من كان سببا في موتهم غرقى في قبو…
لكن ماذا سينفع القصاص والعقاب بعد ذهابهم إلى حيث سيلقون الله، إلى حيث سيسألون بأي ذنب قتلوا؟
ماذا ستستفيد أم ثكلى وأب مكلوم وأسرة فقدت فلذات كبدها في فاجعة اهتز لها المغرب كله…
هل سيعيدهم القصاص إلى الحياة؟
هل ستعود الفرحة إلى بيوت غادرها نور الشمس وترك ساكنيها غارقين في بحر دموعهم وآهاتهم مثلما غرق أبناؤهم وبناتهم في مستنقع آسن من الظلم والغبن والاستغلال والتواطؤ؟
هل سيجد طفل يُتم قسرا ذلك الحضن الدافئ الذي حرم منه إلى الأبد وترك وحيدا وسط بحر الحياة المظلم؟
هل ستهرع طفلة صغيرة، من جديد، لاستقبال أب منهك لتمحو عن محياه كل أثر للتعب والإرهاق، وتهديه أجمل ابتساماتها مثل عصفور فرح ينشر تغريداته في كل مكان؟
هل ستستأنف العروس تجهيزات عرسها وتطوف كفراشة جدلى في الأسواق بحثا عن مستلزمات ليلة عمرها المسروقة وهل ستزغرد أمها فرحا بها وهي تزفها في قفطانها الأبيض بدل أن تشيعها جثة هامدة إلى قبرها الموحش؟
لن يفعل القصاص أي شيء من ذلك..
سيزج بالمسؤولين المحتملين عن الفاجعة في السجن وستطوى الصفحة وستنسى وسيعود كل واحد منا إلى روتينه اليومي المعتاد إلى أن تقع فاجعة أخرى …كما وقع قبلا وقبلا وقبلا…
جميل أن نفكر في القصاص بل من الضروري أن يقتص المجتمع من كل من تسول له نفسه الاعتداء على حياة الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لكن الأجمل التفكير في مصالح الناس وهم أحياء يرزقون وليس وهم موتى تضمهم القبور…
الأجمل الحفاظ على حقوقهم والحرص على سلامتهم والضرب بيد من حديد على كل من يظن أن بإمكانه اللعب بمصير الفقراء واستغلال ضعفهم وجني المال من عرقهم جبينهم والتهرب من الضرائب و المساءلة القانونية والمسؤولية الملقاة على عاتقه…
العشرات من الورشات غير القانونية المنتشرة في كل المدن المغربية يعمد أصحابها إلى استغلال العاملات والعمال والسطو على حقوقهم بل استعبادهم في مشاهد تحيلنا إلى عصور الإقطاع والاستبداد…
عشرات الأشخاص اللاهثين وراء الربح الوفير والسهل يجهزون معامل سرية في قبو عمارة سكنية أو منزل أو فيلا يستقطبون يدا عاملة فقيرة تغض الطرف عن المطالبة بأدنى الحقوق التي يكفلها لها القانون خوفا من الطرد أو بطش رب العمل «الملهوط» الذي يتحكم في رقابهم مثلما يتحكم تمساح بشع في رقبة فريسته.
يد عاملة تشتغل في ظروف لا إنسانية ليل نهار، وسط الرطوبة والهواء الفاسد والأمراض التي يصابون بها نتيجة ذلك دون تعويضات أو تصريح في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أو تغطية صحية أو…
يد عاملة تشتغل ب»العطش»، ومن لم يفهم هذه الكلمة فليسأل عنها أي عاملة خياطة أو في أي مجال آخر وسيفهم بالضبط معناها…
يد مستعبدة في بيئة يتحكم فيها الشاف والباطرون وكل من له سلطة ولو صغيرة، وتبرز فيها كل مظاهر الظلم وامتهان الكرامة والاستبداد وأكل عرق الفقراء في مأدبة يحضرها اللئام من القوم ويستسيغون مذاقها ببرودة دم مثالية، مثل ضباع جائعة يسيل لعابها لمرأى المال
والكسب النتن..
يد مستعبدة لا يجد مستعبدها ضيرا في إقفال الأبواب عليها لأنه يخاف من أن يسرق، ويذهب للنوم ملء جفونه تاركا وراءه بشرا مسجونين داخل قبو دون أدنى خوف من المخاطر التي من المحتمل أن يتعرضوا لها، لا يهمه الأمر طالما أن ماله محفوظ وإنتاج ورشته غزير يسير…
ورش «سرية» على مرأى ومسمع من الجميع، كيف تكون سرية والكل يعرف أن ذلك معمل للنسيج أو الأحذية وتلك ورشة لصنع الشكلاط حتى.
الورش والمعامل «السرية» تنتشر في كل مكان، عشرات الشاحنات التي تنقل المواد الأولية والسيارات المحملة بالبضائع في أزقة جانبية أو شوارع خلفية وعمال يتنقلون كأسراب النحل جماعات أو أفرادا يلجون الورش بشكل علني سافر لا يلبسون لا طاقيات إخفاء ولا هم عفاريت ولا أشباح، بل إن أصوات «الماكينات» تفصح بشكل لا ريب فيه عن وجود معمل في هذا الزقاق أو ذاك، يقوم بنشاطه بكل حرية وأمان، فأين السرية التي يتحدثون عنها في نشرات الأخبار؟
الحقيقة أن السرية يجب أن ترفع عن الغش، وعن الفساد ، وعن غض الطرف بمقابل عن مستغلي عباد الله…
يجب فضح كل متواطئ مع مثل هؤلاء، كل من يأخذ نصيبه من الكعكة ليصمت عن انتهاك القانون..
دم الضحايا ليس في رقبة من شغلهم في تلك الظروف المهينة فقط، دمهم في رقبة من يتغاضى عن مآسيهم، كذلك، من أغمض عينيه عن معاناتهم، من يفرك يديه فرحا بمال فاسد جناه عن طريقهم، من يتوانى عن إعمال القانون وتطبيقه طمعا في كسب بغيض مشكوك فيه وخيانة للأمانة التي وضعت فيه…
هم ضحايا لمجموعة من الجلادين، ضحايا الجشع والطمع والاستغلال والمظاهر السلبية التي استشرت في المجتمع ونشرت عروقها في كل مكان، ومدت أيديها في كل اتجاه مثل أخطبوط أسطوري بألف ذراع وذراع، من يرحمنا منهم ويرحم هذا الوطن من فاسدين بشعين سارقي عرق الضعفاء وحياتهم، وما زالوا يسألون هل من مزيد من؟؟؟
أيها الراحلون، قلوبنا تنزف دما عليكم، وطننا حزين لفقدانكم، فإلى جنة الخلد سيروا..وعلى أرواحكم السلام…
الكاتب : خديجة مشتري - بتاريخ : 11/02/2021