لا حل سوى داخل المغرب من خلال مشروع الحكم الذاتي الموسع
أسال جواب الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية الجديد نيد برايس (من مواليد 1982، ضابط سابق في جهاز المخابرات الأمريكية ما بين 2006 و 2017، قدم استقالته منها بسبب معارضته لسياسة الرئيس ترامب)، حول سؤال متعلق بملف قضية الصحراء الغربية للمغرب، صبيحة يوم 21 فبراير 2021، الكثير من المداد في مختلف وسائل الإعلام بالدول ذات التقاطعات المصلحية مع هذا الملف الحيوي بالنسبة لبلادنا. وهو الجواب الذي اعتبر أول رد واضح من ذلك المستوى السياسي والمؤسساتي، ضمن الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس الديمقراطي جو بايدن، يؤكد بلغة ديبلوماسية محترفة، أنه لا تغيير في قرار الدولة الأمريكية المتعلق باعتراف واشنطن بمغربية الصحراء وسيادتنا الوطنية الكاملة على تلك الأقاليم الجنوبية للمغرب.
جديا، هذا موضوع يفرض كثير كياسة وغير قليل من الإبتعاد عن المقاربات العاطفية الباحثة عن أسباب الرضى الخادعة، مما يلزمنا في ضفتنا المغربية، أن نقرأ المواقف كما هي في وضوحها المسؤول.
قبل تفصيل القول في مضمون ما جاء في كلام ذلك المسؤول الديبلوماسي الأمريكي، الذي لم يتعدى دقيقة و 32 ثانية، لابد من التوقف مع القارئ الكريم، عند مستوى ما تمثله مؤسسة الناطق الرسمي بالإدارات الأمريكية عموما، وضمن وزارة الخارجية بواشنطن على الخصوص، وكذا شخصية الناطق الرسمي الجديد بها. والغاية من ذلك تبيان أنها مؤسساتيا ذات أدوار جد حيوية في نقل وتعميم القرارات الرسمية للحكومة الأمريكية أمام الرأي العام المحلي والدولي.
سمح لي تدريب مهني، استفدت منه في شهري أكتوبر ونونبر من سنة 1999، بعدد من المؤسسات الأمريكية التي يصنع فيها القرار السياسي الأمريكي (البيت الأبيض، وزارة الخارجية، وزارة الدفاع البنتاغون، الكونغريس بالعاصمة واشنطن، ثم مقر هيئة الأمم المتحدة بنيويورك)، من الوقوف بالتحديد عند دور مؤسسة الناطق الرسمي بمختلف هذه الإدارات المركزية بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي هو دور حيوي جدا. كنا فريقا من الصحفيين العرب (واحد من المغرب، واحد من الجزائر، واحد من تونس، واحد من الاردن، واحد من مصر، اثنان من لبنان، اثنان من فلسطين وواحد من قطر)، سمح لنا التواصل مع مختلف الناطقين الرسميين بتلك الإدارات الأمريكية، من الوقوف على شكل البنية المؤسساتية لتلك المصلحة الإدارية التواصلية الهامة، التي تتشكل من فريق ضخم من الموظفين المتخصصين في مجالات التواصل واللغة والملفات السياسية بمختلف تشعباتها، الذين مهمتهم توقع الأسئلة الآنية حول مختلف القضايا وبلورة الأجوبة المناسبة بخصوصها، بالدقة اللغوية المطلوبة سياسيا. وهي الجمل والكلمات التي سيلتزم بها حرفيا الناطق الرسمي بدون زيادة ولا نقصان.
كان الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية حينها هو السيد آدم أورلي، الذي سيعين بعدها سفيرا لبلاده بمملكة البحرين (وهو اليوم ديبلوماسي كبير متعاون مع قناة ميدي آن تيفي المغربية، من خلال برنامج تحليل حواري تلفزي من واشنطن يستضيف مساء كل أحد زبدة من كبار الخبراء الديبلوماسيين والسياسيين والأمنيين الأمريكيين لمناقشة ملفات ترتبط بمصالح المغرب في العلاقة مع الحكومة الأمريكية أو ضمن موقعنا الإقليمي والعربي والقاري). كان السيد آدم أورلي ملما باللغة العربية حينها، دون أن يتحدث بها بطلاقة. وكان يشرف على فريق من الموظفين بقسم الناطق الرسمي للوزارة ينطلق عملهم يوميا باكرا، في الساعة الخامسة صباحا، ببرنامج عمل جد مدقق يستند على خريطة طريق موزعة الأدوار فيها بين مجموعات متخصصة حسب توزيع خريطة العالم، حيث مجموعة متخصصة في إفريقيا ومجموعة متخصصة في آسيا وأخرى في أروبا وهكذا. وضمن كل جهة من جهات العالم تلك هناك مساعد متخصص في الملف الروسي مثلا ضمن المجموعة الأروبية، وهناك متخصص في الملف الصيني ضمن المجموعة الآسيوية وهكذا.
تكون خريطة القضايا الدولية الآنية محددة مسبقا كل صباح، مثلما هي محددة الملفات التي تعتبرها الخارجية الأمريكية ذات أولوية، ومندرجة ضمن اهتمامات المصلحة القومية الأمريكية. بالتالي، فإن مهام أولئك الموظفين هي توقع الأسئلة المحتملة من قبل الصحفيين المعتمدين من قبل الوزارة الممثلين لمختلف وسائل الإعلام الأمريكية والأجنبية، والعمل بالتالي على بلورة الأجوبة المناسبة بخصوصها. بعدها تأتي مرحلة الغربلة الأولية، لأن الإدارة الأمريكية ليست ملزمة بالجواب على كل الأسئلة وكل الملفات (هنا يكون دوما جواب الناطق الرسمي في حالة ورود سؤال لا ترغب الإدارة الأمريكية إثارته هو: “لا جواب حاليا”). تليها مرحلة ثانية للتبويب حسب أهمية الملفات، ثم مرحلة تدقيق صياغة الأجوبة، التي تحضر فيها هنا الكفاءة اللغوية والكفاءة الديبلوماسية، حيث لا شئ متروك للصدفة والمزاج، بل هنا تحضر الإحترافية العالية. وبعد التحرير النهائي، في أفق الساعة العاشرة والنصف صباحا، يكون الناطق الرسمي متوفرا على ملف الأجوبة مرقونا ونهائيا، قبل أن يخرج إلى قاعة الصحفيين في الساعة 11 صباحا. وكثيرا ما تحدث تعديلات في كلمات وجمل في آخر لحظة، حسب تطورات متلاحقة في ملف حيوي آني.
المستوى الثاني الهام، ضمن قسم الناطق الرسمي في مختلف تلك الإدارات الأمريكية الحيوية، التي يصنع فيها القرار السياسي الأمريكي، هو طبيعة شخصية الناطق الرسمي. هنا يكون الإختيار بمقاييس جد معقدة ومتداخلة، فيها الكفاءة اللغوية والكفاءة النفسية والكفاءة السياسية وقوة الشخصية. لأن الناطق الرسمي هو وجه المؤسسة تلك، هو صوتها، هو قيمتها السياسية والإدارية أيضا، المخول له التحدث باسمها. ولو أخدنا مثال الناطق الرسمي الجديد لوزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، فهو ليس مجرد موظف يأتي كل صباح أمام صحافة العالم ليجيب على أسئلة متعددة حول ملفات مختلفة، كل ملف منها عالم قائم بذاته، بل هو مسؤول سياسي بدرجات كفاءة خاصة. فالرجل لا يزال شابا، ممتلكا لطاقة جسدية مطلوبة وواجبة، فهو من مواليد 1982. لكنه أيضا موظف أمريكي يجر وراءه تجربة جد غنية في مجال المخابرات الخارجية الأمريكية، ملما بمعنى صياغة التقارير الأمنية والسياسية، كونه عمل ضابطا بجهاز “السي آي إيه” لأكثر من 11 سنة، من سنة 2006 حتى سنة 2017. وأنه صاحب موقف سياسي، عبر عنه يوم قرر تقديم استقالته من مهامه كضابط مخابرات ونشر مقالة رأي صحفية بيومية “الواشنطن بوست” في شهر فبراير من سنة 2017، ضد سياسة الرئيس ترامب الأمنية، وهي المقالة التي أثارت ردود فعل متعددة، جعلت نجمه يبرز ضمن من يمكن وصفهم ب “الجيل الجديد من نسور السياسة الأمنية والخارجية” الأمريكية. وسيتعزز ذلك مجددا بعد نشره مقالة أخرى في شهر يوليوز من ذات السنة، جد انتقادية ضد مقاييس اختيار صهر الرئيس ترامب كوشنير لإحدى المسؤوليات العمومية. بالتالي، فالرجل ليس موظفا بسيطا أو عاديا كما قد يعتقد، بل إنه واحد من الأطر الديبلوماسية الرصينة والقوية الجديدة بواشنطن، وحين يتكلم في ندوته الصحفية اليومية، فهو “ثعلب مهني” حقيقي، ولا يطلق كلماته هكذا، بل هي ذات وزن، ووزن ثقيل.
ما أهمية قول نيد برايس عبارة “الخلاف بالمغرب”؟
تأسيسا على ما سبق وحاولت شرحه من أهمية لمؤسسة الناطق الرسمي بمختلف الإدارات الرسمية الحكومية الأمريكية، وطبيعة شخصية الناطق الرسمي، نستطيع تأطير معنى تصريح السيد نيد برايس وقيمته، بعيدا عن مزالق الرضى الخادعة.
بالتالي، فإنه بالعودة إلى موقع وزارة الخارجية الأمريكية (ضمن خانة الندوة الصحفية للناطق الرسمي المؤرخة بتاريخ 22 فبراير 2021)، سنجد النص اللغوي المدقق الكامل، المعتمد، المتعلق بالفقرة الخاصة بالجواب عن سؤال لأحد الصحفيين المعتمدين لدى الوزارة، المتعلق بتطورات الموقف الأمريكي من قضية صحرائنا الغربية المغربية. وهو النص الذي لا ينشر عادة سوى بعد مراجعة دقيقة كما سبق وشرحت فوق. وحين نقف بالقراءة والتحليل أمام ذلك النص المعتمد المنشور، فإن التأويل والتفسير كله يذهب في اتجاه خلاصة مركزية أساسية، هو أنه لا تغيير في موقف الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس بايدن (بمنطق الدولة) بخصوص اعتراف الإدارة السابقة للرئيس ترامب بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه الغربية.
ما الدليل على ذلك، تأسيسا على هذا المستوى الرسمي من ضمن بنية مؤسسات صناعة القرار الأمريكي، المتمثل في وزارة الخارجية؟.
علينا، تسجيل أنه ضمن بنية صناعة القرارات السياسية الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن المسؤول الأول هو الرئيس، الذي يستمع قبل أي اتخاذ قرار خارجي لمجلس أمن قومي داخلي بالبيت الأبيض مشكل من وزير الخارجية ومدير جهاز المخابرات “السي آي إيه” ووزير الدفاع وسفير واشنطن بالأمم المتحدة ورئيس موظفي البيت الأبيض والمسؤول عن أجهزة الأمن الأمريكية، وبعد تداول مختلف الملفات يتخذ الرئيس القرار ويمرره لوزير الخارجية للتكفل بشكليات تنفيذه. بالتالي، فإن سقف المواقف والقرارات التي يفسرها ويشرحها أو يجيب عن الأسئلة حولها الناطق الرسمي لوزارة الخارجية هو سقف محدد بهذه التراتبية الإدارية الواضحة. ومن هنا قيمة وأهمية ما ينطق به ذلك الناطق الرسمي.
تأسيسا على كل ذلك، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية حول ذلك التقرير الصحفي المعتمد من قبل وزارة الخارجية الأمريكية المعنية بالعلاقات الخارجية والدولية للولايات المتحدة الأمريكية، كما نشر بموقعها الرسمي يوم 22 فبراير 2021:
1 – إن الناطق الرسمي استعمل عبارة «لا تحديث» في الموقف الرسمي الأمريكي (التي من معانيها في اللغة الديبلوماسية «لا جديد» / «لا تغيير»/ «لا تبديل»)، جوابا على سؤال صحفي طلب بالضبط معرفة إن كان هناك «تحديث». ومعنى التحديث في القاموس الإنجليزي وحتى الفرنسي، هو «إعادة تغيير البرنامج» (والمصطلح يرد كثيرا في مجال تكنولوجيا المعلوميات، حيث إن معنى «No updateّ» هو أنه لا ضرورة لتحديث البرنامج المتبع، الذي يقابله المعنى الفرنسي «Pas de mise à jour»). وتكتسب الكلمة معناها الأقوى تأويليا، حين نجدها مرتبطة بالجملة التي تلتها مباشرة التي تفيد: «أعتقد أن ما قلناه على نطاق واسع لا يزال ساريا» ومعنى كلمة «ما قلناه» هو أنها تحيل على «الدولة»، أي أن المعنى هو «ما قلناه كدولة».
2 – سينتقل الناطق الرسمي ذاك مباشرة للحديث عن موضوع لم يسأله عنه الصحفي، كحرص منه على التعبير عن موقف، حين نوه ورحب بما أسماه «الخطوات التي يتخذها المغرب لتحسين علاقاته مع إسرائيل»، مشددا على أن فوائدها ستكون طويلة الأمد على البلدين (وما يهمنا هنا هي عبارة «طويلة الأمد»، التي تعني أن التحول هو بأفق استراتيجي جديد ممتد في الزمن). وهذه جملة لا يدرك قوتها سوى من هو مطلع بشكل جلي وملموس على قوة حضور ورقة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ضمن صناعة القرار السياسي الدولي الخارجي الأمريكي بواشنطن، وأنها ورقة حاسمة في كل العمليات الإنتخابية على كافة المستويات هناك، التي يضعها الحزبان الجمهوري والديمقراطي في المقام الأول. بالتالي فإن دور المغرب ضمن ملف العلاقات العربية الإسرائيلية وازن وكبير ومطلوب، لأنه مؤثر في الداخل الإسرائيلي ومؤثر أيضا في الجانب الفلسطيني ثم العربي والإسلامي.
3 – يمكن العودة إلى كل التصريحات الرسمية للناطقين بوزارة الخارجية الأمريكية فيما سبق، المتعلقة بموضوع «الصحراء الغربية للمغرب»، سنجد أن التعبير الذي ظل يستعمل فيها دوما هو «النزاع الإقليمي» (différend régional/ regional dispute)، لكننا هذه المرة نجد تعبيرا جديدا لأول مرة هو «الخلاف بالمغرب» (dispute in Morocco/ différend au Maroc).
وهذا يؤكد أن تغير الموقف الأمريكي هو تغير لموقف الدولة والحكومة الأمريكية وليس للأشخاص، مفروض أن الديبلوماسية الجزائرية والديبلوماسيات الغربية المعنية بالملف تفهمه جيدا. فالمسافة كبيرة بين تأطير «النزاع الإقليمي» وتأطير «الخلاف بالمغرب». فالرسالة هنا، هي أن مسألة مغربية الصحراء محسومة أمريكيا، وأن الطريق هي في المساعدة عبر الآلية الأممية السياسية لحل «الخلاف» داخل السيادة المغربية. (والإطار هنا هو مقترح الحكم الذاتي وأشكال تنفيذه). بالتالي، فهي طريق جديدة للحل، أصبحت تتبناها الدولة الأمريكية ضمن منطقتنا المغاربية والغرب متوسطية والغرب إفريقية.
4 – سيلح الصحفي ثلاث مرات في السؤال مجددا، رغم أن الناطق الرسمي للوزارة قد طلب الإنتقال إلى موضوع أفغانستان، وسيسأله: «قلت إنكم ستدعمون عملية الأمم المتحدة. لكن عملية الأمم المتحدة ستؤدي إلى استفتاء عام؟». فكان جواب الناطق الرسمي حاسما: «لا، قلت إننا سندعم عمل بعثة الأمم المتحدة (المينورسو) لوقف إطلاق النار ومنع العنف بالمنطقة». فألح الصحفي أكثر قائلا: «هل هذا يعني أنك لا تعترف بالصحراء الغربية كجزء من المغرب؟»، فرد عليه الناطق الرسمي مرة أخرى: «بل هذا يعني أنه ليس هناك أية تحديثات كما تريد».