تيمة الكتابة في رواية «أشياء غير مكتملة»

صدر حديثا عن دار الفاصلة للنشر رواية « أشياءٌ غيرُ مكتملةٍ « في طبعتها الأولى لمؤلفها محمد بدازي. الرواية، ومن خلال فصولها الأربعة ( هبة، Rubio، صوفيا، ملاك)، تطرق فيها الكاتب إلى مساءلة حزمة من القضايا الاجتماعية الشائكة ورفع الستار عن بعض الإشكالات الفلسفية المزعجة التي ظلت تقض مضجع الإنسانية وترهق تفكيرها، في ظل التطور الرقمي المتسارع والمتراكم نوعا وكما والمصحوب بطغيان صارخ لوسائل التواصل والاتصال الحديثة على كل مظاهر ومناحي الحياة العامة. هذا المعطى جعل النوع الإنساني مستلبا في ذاته ومهددا في خصائصه وقيمه، إن لم يكن في وجوده ككل. وبما أن الكتابة تعد أبرز الميزات التي ينفرد بها الكائن الإنساني عن غيره من الكائنات، فإن حضورها في النص الروائي شكل علامة فارقة ساهمت بامتيازفي إثراء معالمه شكلا ومضمونا، وما تكرار مادة (كتب) بمختلف اشتقاقاتها (حوالي 270مرة ) في الرواية إلا لفتة بسيطة لهيمنة موضوعة (الكتابة) على باقي الموضوعات. فكيف تم توظيف تيمة الكتابة لبناء أحداث الرواية وصياغة مضمونها؟ وإلى أي مدى توفق الكاتب في ذلك؟

مما لا جدال فيه أن العنوان – باعتباره أهم عتبات النص – يعد مدخلا رئيسا ومؤشرا حاسما لإدراك هوية النص وسبر أغواره بغية تحصيل المعنى (الظاهر والمستتر)، والذي يظل الهدف الأسمى للقارئ باعتباره « ذاتا نصية « تشارك بحيوية في إنتاج وبناء معنى النص حسب رولان بارت. هذا المعطى يستدعي منا وقفة تأملية في بنيته (العنوان) التركيبية والدلالية كشرط لازم لتشكيل أفق القراءة، وتمهيدا للإجابة على انتظارات القارئ وتحقيق تطلعاته التأويلية المشروعة.
لقد ورد العنوان في شكل جملة إسمية، فعبارة أشياء تعرب خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (هي أوهذه)، غير نعت مرفوع لأشياء، ومكتملة نعت مجرور. أما دلاليا، فالعنوان يختزل في طياته معاني النقص، الفشل والتبعثر. ولعل الكاتب باختياره لهذا العنوان يروم تحقيق غايتين؛ الأولى لفت انتباه القارئ وإثارة عنصر التشويق لديه لدفعه إلى الانخراط الفعلي في عملية القراءة، والثانية إخبار القارئ الافتراضي بأن النقص وعدم الاكتمال سيطبع النص الروائي بكل عناصره من شخوص، أحداث، علاقات، أسلوب، زمن وخط السرد…
إن ممارسة فعل الكتابة لم يمثل للروبيو(الشخصية الرئيسة في الرواية) ترفا ثقافيا أو نزوة فكرية عابرة فحسب، بل رغبة دفينة، تحديا ذاتيا ومشروعا أدبيا ممتدا في الزمكان لإثبات الوجود والوقوف في وجه العدم حيث يقول الروبيو في هذا الصدد بعد حوار شائق مع صديقه عصام: « إذا كانت الكتابة تلهي أو تنسي، وهي ليست كذلك أبدا، فسأكتب ما دمت حيا.» ص 28، فمن خلال الكتابة الأدبية وتحديدا جنس الرواية، سيحاول الكاتب الإجابة عن سؤال المعنى باعتباره الخيط الناظم والحجر الأساس الذي يرتكز عليه الوجود الإنساني بكل تعقيداته وتحدياته. لقد ظلت لعبة الإمساك بزمام المعنى مطلبا مستفزا ومحايثا للإنسان في رحلته الممتدة من العدم إلى العدم مرورا بالوجود المسمى اعتباطا حياة، الأمر الذي عبر عنه الكاتب بدقة حين استحضر مقولة للروائي اليوناني كزانتزاكيس: « نأتي من هاوية مظلمة وننتهي إلى مثيلتها، أما المسافة المضيئة بينهما فنسميها حياة.» ص12. هذه الرؤية الفلسفية العميقة والقاسية للوجود ستترسخ أكثر كلما تعمقنا في الرواية.
اتخذ مفهوم الكتابة لدى الروبيو معان متناقضة، فهي تعبير عن الألم أو « انفتاح جرح ما « كما قال كافكا من جهة، وعلاج لهذا الألم من جهة أخرى حيث يقول الروبيو: « الكتابة تعبير عن الألم وشفاء منه.» ص32. هوس الروبيو بالكتابة جعله ينخرط (بوعي أو بدونه) في مسلسل بوح سردي كاشف، بداية من طفولته الموسومة بالحرمان العاطفي، الهجر العائلي (فراق الأبوين المبكر) والشقاوة كرد فعل عنيف وثورة ضد هذا الواقع، مرورا بمرحلة المراهقة المصحوبة بفورة الرغبة الجنسية والبحث عن سبل تفريغها ( الاستمناء، أفلام الجنس والتردد على دور الدعارة) وصولا إلى مرحلة الشباب التي تزامنت مع فترة الدراسة الجامعية حيث نقطة التحول الجذري للأحداث، الشخصيات وحتى زمن وخط السرد. إن الاطلاع على كتابات وأفكار كبار الفلاسفة والأدباء شكل نقلة فكرية نوعية في وعي الروبيو، نقلة قادته للتعرف على محاسن وما أعقبها من خيبات، انكسارات، شقاء، تيه، قلق، ألم ونكبات عاطفية ( إجهاض صوفيا، انتحار ملاك، محاولة انتحار هبة ودخوله السجن) وما اعتراف الروبيو الصريح بشقائه إلا غيض من فيض مآسيه : « منذ قذف بي في هذا العالم وأنا أواجه الصدمات، وكأن الله خلقني ليقيس بي مدى قدرة الإنسان على تحمل الشقاء.» ص 142.
أمام هذا الزخم الكبير من المعاناة، أضحت الكتابة حصنا منيعا وطوق نجاة للروبيو « لقد باتت الكتابة شغفي ومهربي من كل ما هو تافه وممل…» ص104. إن انشغال الروبيو العميق بفعل الكتابة أفرز لنا نصا روائيا ماتعا، ثائرا وجريئا سلط فيه الكاتب الأضواء الكاشفة على المناطق المعتمة، الرمادية، المحرمة والمسكوت عنها في سماء المجتمع المغربي كالحرية الجنسية، البغاء، الإجهاض، الانتحار، زنا المحارم، إفلاس مؤسسة الزواج وانهيار الأسرة ومن ثم فشلها الذريع في دورها التربوي. كما لم يفوت الكاتب الفرصة لرد الاعتبار للمجتمع القروي لا سيما بساطته وعفويته المتفردة مع تسجيل الأثر السلبي لهجوم الحشرة القرمزية على نبتة الصبار الذي يعد رأسمال مادي وحضاري لسكان القرى. تصدى الكاتب لمناقشة وإيضاح بعض المفاهيم الفلسفية الملتبسة كثنائية الإيمان/الإلحاد، الله، الحقيقة باعتبارها مفهوما هلاميا لا يرتكن إلى تعريف واحد، الحرية الفكرية ، الحق في الاختلاف، قبول الآخر مع الانفتاح على باقي الثقافات بكل مكوناتها، الدعوة إلى نبذ التعصب بشتى ألوانه وأشكاله والانتصار للإنسانية باعتبارها أسمى الغايات.
من الناحية الفنية، سلاسة لغة النص واعتماد الكاتب لتقنية الاسترجاع (فلاش باك) من خلال غوصه في ماض أبطاله، والمزواجة في استعمال أسلوبي الحوار خاصة الداخلي(المونولج) والحكي في صياغة أحداث النص، فضلا عن استعانته بعدة تقنيات روائية أضفت على النص جمالية ومتعة. فمن خلال توظيف التناص الأدبي مع شكري( الوصف الدقيق والجريء لحياة الهامش والعلاقات الحميمية لشخوص الرواية) والفلسفي مع كامو(العبث الذي يطبع الوجود الإنساني) فضلا عن الاستئناس بزفزاف، بوكوفسكي، نيتشه، سيوران وغيرهم للتدليل على؛ قبح وقسوة المجتمع، تردي منظومة القيم وانهيار صرح الأخلاق. كما نسجل لجوء الكاتب أيضا لتقنية الاقتباس حين أدرج مجموعة من الأقوال المختارة لكتاب أجانب وعرب، فضلا عن قصائد ومقاطع لآغاني شهيرة والتي خدمت النص عبر الكشف عن الحالة النفسية للشخصيات من جهة، وكسر رتابة السرد من جهة أخرى مانحا في الوقت نفسه متنفسا ذهنيا للقارئ قصد إكمال سفره في أحداث النص لعله بذلك يجد ضالته المنشودة اكما قال الكاتب على لسان الروبيو: « وخلال هذا السفر، بدأ ينجلي أمامي شيء من المعنى الذي طالما بحثت عنه.» ص 178.
تأسيسا على ما سبق، يتضح جليا أن استثمار تيمة الكتابة في الرواية من جهة، وموسوعية الكاتب الأدبية ، مستواه الثقافي وقدراته الإبداعية من جهة أخرى، فضلا عن ترسانته الفكرية وتجربته وجرأته الفلسفيتين، مكنه من مقاربة سؤال المعنى الذي ظل يؤرق الوجود البشري من خلال طرحه ونقده البناء لمجموعة من القضايا الاجتماعية، وكذا تعاطيه الحاسم مع سلسلة من الإشكالات الفلسفية التي ظلت الإجابة عنها موضوع تردد وتهرب لا يستند إلى تبرير منطقي أو عذر مقبول. وعليه، فلا يسعنا إلا أن نهنئ الكاتب على قريحته الإبداعية التي أنجبت لنا نصا روائيا واعدا، ميزته الجرأة الفكرية والشجاعة الأدبية في تناول ومساءلة العديد من القضايا والأسئلة التي ظلت لردح من الزمن رهينة لجملة من التمثلات الخاطئة، الأفكار المشوهة والتأويلات المعطوبة.


الكاتب : محمد سامي السكتاني

  

بتاريخ : 09/03/2021