الحكاية وما يجاورها

في السَّرد، حسب سعيد يقطين، تحقق مورفولوجية الحكاية، وذلك عبر ما هو لفظي وصُّوَرِي وحركي؛ ولذات السبب والعلة يخترق السرد مختلف التواصلات والانفعالات الإنسانيَّة، ولا يقف عند حدود المكتوب فقط. علاوة على ذلك ؛ فالحكاية تتحقق في أوساط متعددة ومختلفة . فلا تقوم قائمة اللـَّمة الطفوليَّة وحبورها، إذن، من دون طبق حكائي شائق يعضد الإنسان بالحياة، فيكون الإبداع المجال الأنسب للتعبير والاحتفاء .
فالقصة القصيرة جنسٌ أدبيٌّ نثري حديث النشأة ، ظهر في الثقافة الغربية ، وتقوى بفعل قصَّاصين مرموقين ؛ لينتقل بعد ذلك إلى حظيرة الأدب العربي مع رواد أفذاذ . وكما قال رائدُها غي موبسان نقلا عن كتاب « فن القصة القصيرة « لرشاد رشدي : « إن الحياة عبارة عن وصلات ولحظات هاربة ومتسارعة في الزمن والمكان، فلا دوحة تحتضن هذه الهروب الكبير سوى عريشُ القصة القصيرة «. بالمقابل، فالرواية تحتاج إلى فيض زمني، لاستيعاب هذا الجنس الأدبي قراءةً أو تأليفاً. فانقلب ميزان التقييم لصالح هذا الجنس الأدبي القصير حديث الولادة ؛ ليساير هموم وانشغالات الإنسان المعاصر بين السُّرعة والاِختزال . وينتشر هذا الجسد المنحوت من القصر والاختزال والمحو كالضوء، ليغمرَ العالمَ بعريشه الممتد عبر الصحافة الورقيَّة والإلكترونيَّة ؛ كي يُعانق قرَّاءَه الأوْفياء في سذاجة وبراءة الطفولة .
فالحلم و الفوضى والانحراف والتجاوز والخيال والذاكرة والهذيان وخلخلة الحواس وتراسلها عوالمُ جديرة بالغزو حسب باشلار، تيمات لها مستنبت قصصي بارز في السرد. وذلك يتم من خلال تمثل واضح واستيعاب لمختلف التيارات الفكريَّة والمعرفيَّة ، حيث تصبح القصة القصيرة تتمتع بروافد شتى، تصلح أن تكون خزانا معرفيا وديوانا جديدا تنطوي على مختلف الظواهر الثقافية و التاريخيّة والمعرفية، التي يحياها الإنسان المعاصر، غير أن الدِّراسات التي تجعل من القصة القصيرة متنا للاشتغال، لا بد أن تعي مدى حساسية الموضوع. وتبعا لذلك، فهناك دراسات حول هذا الجنس الأدبي البكر، لم تبرحْ إطارات وحدودا ومراجع محددة سلفا، تنتظم عندها جلُّ الأبحاث والدراسات الأدبية تقريبا .
ونتيجة لذلك، نجد أحمد اليبوري بوَّب وصنَّف هذه الدراسات حول القصة القصيرة إلى خمسة اتجاهات وأشكال قصصية ، والمتمثلة أساسا في مايلي :
دراسات تـُعنى بتاريخية القصة القصيرة ؛
أبحاث تعنى بسوسيولوجيَّة القصة القصيرة ؛
دراسات تهتم بالجانب السياسي والأيديولوجي ؛
القصة القصيرة المنغمسة في الاستيلاب ؛
وأخيرا القصة القصيرة ذات البعد التأملي .
من الملاحظ جدا وانطلاقا من التوجهات التي باشرتها معظم هذه الدراسات عبر تاريخ الثقافة المغربية، يتضح هيمنة الاتجاه التصنيفي ـ الصُّنافي على معظم الأبحاث والرسائل . ففي نظري ، هذه الاتجاهات تقتل الإبداع وتشل حركته وتجعله ينوس بين الجمود والنمطيَّة المَقيتة. إن الافتقاد إلى روح البحث العلمي في تناول الظواهر الأدبية، والتمييز بين المعارف والنظريات، وانتقالاتها عبر قنوات علمية حقيقية، تجعلنا أمام المبتذل والمتجاوز والبدهي من الأبحاث والدراسات .
من جانب آخر، ستظل المعرفة التاريخيّة فارضة نسقها بقوة، سيما وأن تتبع المسار الفكري والأيديولوجي لعميد القصة في المغرب؛ أحمد بوزفور سيكون الإطار، الذي يجب أن أتحرك فيه وعبره ، خصوصا وأنه نـَاسَ بين الشعري والنثري في مسيرته الإبداعية. فكثير من الشعراء رحلوا وهجروا الشعر، ليستقر بهم المقامُ في عوالمِ السردِ الساحرةِ . غير أن أحمد بوزفور وجد ضالته في جنس القصة القصيرة تحديدا، بأحلامها الورديَّة ورؤاها الفاتنة وغواياتها الآسرة. بيد أن الوعي بمفهوم الجنس الأدبي، هو وعي بنظرية الأدب ككل. فتاريخ الأجناس الأدبية يعود إلى الثقافة اليونانيَّة عندما قسَّم أرسطو في كتابه « الشعرية « الأجناس الأدبيَّة إلى: شعر وملحمة. سيما وأن الغاية من إثارة الجنس الأدبي هو الاقتراب أكثر من رصد أهم المتغيرات والمنعطفات التي تطرأ على مفهومي الجمال والدلالة، اللذين يحملهما الخطاب القصصي، من خلال إنتاجات أحمد بوزفور طيلة أربعة عقود من الزمن .
وتبعا لذلك ، فالجنس الأدبي يحتم البحث في المشترك والمتماهي ؛ بغرض تتبع الجمال الفني في علاقته بإنتاج الدلالة، غير أن انفتاح بوزفورعلى الثقافة الشعبيَّة للمغرب العميق من خلال عناوين مجموعاته القصصية « الغابر الظاهر « مثلا من جهة، وعلى الثقافة الشفهية من خلال مجموعته «صياد النعام» من جهة أخرى، وصيدان سيفرضان، لا محالة ، الاستعانة بعلوم أخرى ومناهج تساعد على استجلاء الغامض والمبهم من هذا التطور والإبدال المعرفيين .
وهكذا ، كان التناضر والمماثلة عنوانين بارزين في تجربة أحمد بوزفور القصصية، إلا أن قانون القيمة المهيمنة في الجنس الأدبي، حسب رومان جاكبسون، ستتصل مباشرة بمورفولوجيات الحكاية في الإبداع القصصي. بمعنى أن الشعريَّة تلك البلاغة الجديدة حسب جيرار جنيت، تعتبر سدى الإبداع ؛ تراصف هذا المشترك الذي يخترق التجربة الإبداعية عند بوزفور. فللجنس الأدبي قوانين ينتظم عندها الإبداع؛ علاوة على أن الوقوف على نواميسَ إضافيَّةٍ مثلا : قانون التواتر، التلقي، الثبات، التراكم والتماثل … ستزيد من فرص البحث عن هذا المشترك في القصة القصيرة ، وكيف ستغذي هذه النواميسُ من التجربة الإبداعية عند بوزفور؟
للمنهج البنيوي، حسب رولان بارث، مقومات عدة يستطيع من خلالها، رصد الحفر التي يتركها الأثر الأدبي خلفه، وبمقدوره أيضا أن يبلور التفاعل و الانفتاح الذي ينشأ بين المتلقي والكاتب . غير أن ما صرح به بارث في ما يُعرف ب « موت المؤلف « لهو أكبر دليل على الحيويَّة ؛ التي يتمتع بها هذا المنهج في تناول الظواهر الأدبية واحتوائها. وتبعا لذلك يعد النسق مفهوما أساسيا في البنيوية ، حيث يساهم في انتظام الحكي تبعا للأحداث، وعبره تتراص الحركة في القصة. وبالمقابل نجد أن النسق يولد لنا العلامة اللغوية، مادام الإبداع القصصي يعتمد على اللغة. ونتيجة لذلك، نجد أن كل باحث أو دارس للقصة القصيرة سيجترح ويبقر، لا محالة، عالمَ اللسنيات الحديثة ؛ لضبط حركة هذا التنقل، وهذا العبور الآمن بين مكونات الحكي.
وفي هذا الصدد ، تعجُّ قصص أحمد بوزفور بالشفهي «النظر في الوجه العزيز»، فلعبة النسق تفرض البحث عن المتغيرات التي تسيج الحقل الدلالي للعبارة ؛ بمعنى إلى الثقافة الشفهية يذهب الباحث والدارس. إن مضمون هذا العنوان يعود بنا إلى زمن بعيد، زمن كانت فيه الرسالة ُ تلعب الدور الأسنى في التواصل والانفتاح. وتبعا لذلك لا تستبين العلاقات استبانة من دون تركين الدلالة. فالنسق مولد للجمال من جهة، وباحث عن الدلالة من جهة أخرى.
وفي هذا المنعطف، يبقى رائد القصة القصيرة و قيدومها فاعلا حقيقيا في إغناء الخزانة المغربية والعربية بنصوص غنية من تراث منسي، تقلب فيه مواجع و أحلاما لا يدري من أين شقت طريقها للفتنة في الأقاصي، لينطبق عليها قول المتنبي :
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام ؟


الكاتب : ذ . رشيد سكري