إن قُطِعت شجرة، غداً سوف تُثمر الكلماتُ غابات
أحمد المديني
في زمننا البعيد ذاك، نحن الجيل المبتدئ في وعيه منذ الستينيات، ونحن طلاب، ومع السبعينيات، وصُعُداً، لمّا اشتعلت فينا الرغاب حباً وعنفا، وما أردانا خوف من هزات الانقلاب، لم نسأل: من نحن؟ وماذا نريد؟ وإلى أين؟ كنا خُلقنا بهوية مسبقة، جلباب جاهز لم نميّز جدا هل على مقاسنا، المهم أنه يسترنا، لم تكن لنا أسئلتنا الخاصة، ومنغمرين في البداية بأجوبة أولى يقدمها أو يبحث عنها أسلافنا أو أساتذتنا، نادراً حقا أن كنا نسمع طالبا يطرح سؤالا في المحاضرة، من هيبة، أو مخافة مواجهة امتحان الشفوي، كذلك بذرة الشك لم تنضج كفاية لنمتلك شجاعة القول. ما عدا في فصل الربيع ذاك من سنة 1967 وأستاذنا المرحوم العميد محمد عزيز لحبابي ينهي درسه الشهري في شهادة الحضارة على طلاب الإجازة، وهو دائما يوم مشهود، وإذ صوت يعلو من آخر القاعة، مبحوح وقاطع كالنصل لا تردد فيه وبلا وجل، قال:» عندي سؤالان: سؤال فيزيقي، وسؤال ميتافيزيقي» واسترسل يعرضهما. طرحهما زميلنا أحمد الطريبق، كان من النابهين، واليوم شيخ وقور من الثقات والشعراء الأقحاح، كنا مشحونين وقتها بألف سؤال، ولعله فتح لنا الطريق.
الحق، كنا نحدس من نحن، ممتلئين بالغضب، ألغاما متنقلة مقذوفين بألف سبب، نحن طلبة جامعة محمد الخامس ورجال ظهر المهراز، وهذه هوية كان يطير منها صواب وزارة الداخلية، لأنها وحدها استفزازٌ وتهمةٌ ومشروعُ تغيير ووعدٌ بفتنة وحريق. لا عجب أن الذين تخرّجوا من هناك، وتغذّوا من ضروع ذلك الزمن الماحق هم من آوتهم السجون، وشرّدتهم المنافي، ولم يذعَنوا، عَفُّوا، ما أشهروا إنّا مناضلون، فتلك فطرة فيهم، ولا طمعوا لكرسي ومال، حاشا سقط المتاع مثل هذه الأيام، ذاك اشترى، وهذا يُباع، السياسة عندهم مِحَنٌ وهجرةٌ وما بدّلوا تبديلا.
كم مُرٌّ أن نستعيد هذا الآن ضربا من القول المحال، كم محزنٌ أن نعود بعد نصف قرن لنسأل من نحن وكأنْ ما هلكنا، ولا المهدي وعمر فقدنا، ولا تزمامارت عار من تاريخنا وشنار، وماذا أضيف أكثر من أن هذه الأرض أنجبت شُمّ الرجال، لن أحصي الأسماء أو أعدّد الشمائل، لا آخر فيهم، أقلّهم علَمٌ على رأسه نار.
كنا نعرف من نحن على سنة الله والرسول وفطرة التربية العائلية وبالمدرسة والكتاب والدرب والمُثُل المشتركة وتقاسُم الطعام والمودة والهواء، وخصوصا التفاني في محبة وخدمة الوطن حتى الفناء، منا من ألحقه آباؤه بالكشفية الحسنية، مشتلٌ لتعلم الوطنية للصغار، كلهم صاروا من الكبار، وروادا للجمعيات والأحزاب، قادة، أساتذة، بسطاء وهم أفذاذ وهُداة في الليلة الظلماء، وطنيون حتى النخاع، ملكيون ومعارضون في الرفعة سواء. والحق أنا رضعنا المعارضة من حليب الأمهات، والذين تربوا على الحليب الصناعي وتسلموا من بعدنا وغصبا عنا الزمام، لم يفهموا بأنّا لا نضام، وأن لا طريقة لأمثالنا للفطام. فنحن وُجدنا لنرفض الاستبداد والحكم المطلق ونريد الكرامة وتحقيق العدالة الاجتماعية والديموقراطية، شعارات كان إعلانُها يتحول إلى صكوك اتهام يقف المنادون بها أمام قضاة عتاة يرسلونهم سنوات حيث يليق المقام بالعصاة، وآخرون بتهمة قلب النظام، حكمهم جاهز، هه، أقلّه الإعدام، كانوا ينطقون به بصلف وثقة كأنهم يمسكون صولجان التاريخ، ومحصّنين مما تخبئه الأيام، قد رحلوا خزيا ونحن باقون الكرام.
كان ذاك أمس، ما ينبغي تقديم الشفاعة ولا الندم، أمس الحارق تاريخنا، والتنكّر له مَحوٌ له ولنا، وإلا من نحن بلا سيرتنا، مدوّنة دقائقُها في دفتر الربح والخسارة، ليس المؤرخون الرسميون هم من يكتبونها، وتلقينُها ممنوع، تصفّحوا المقررات المدرسية لتُصعَقوا. هذا زمن الجحود والنكران وحتى الشماتة، ولن يبالغ من يكتب عن هذا البلد كتابا ويعنونه (بلاد المحو والنسيان)، ولن أعيب على المصابين بعقدة قتل الأب، لا يعنيني من لم يمرّوا بالمخاض وعُسر الطلق، فيهم عُميٌ ولصوص وقُرادٌ، ومن لا يستحق حتى البصق.
يبقى يعنيني من يتكلم بإخلاص، لكن كأنه في شرود أو سهو، حين يدعو إلى المصالحة، أولا، ومصالحة المغاربة مع تاريخهم مطلقا، ولا يشرح لنا المعنى، ولا من سيتصالح مع من، ومن أجل ماذا سيعقد (صلح الحديبية) الجديد، باعتبارنا نحن المعارضين وكلّ العصاة كنا في مقام (مشركي قريش)، ولن أضيف جديدا بقولي ليس بالمال والهبات بأنواع تزول أوشام العذاب وتُردّ الكرامة، وإنما لا بد من الاعتراف أولا وإلا فهي قسمة ضيزى.
البقية صفحة 02
هذا حديث لا يبغي التعالي بماضٍ سلَف، وما يسهُل نعتُه الوصاية على زمن كان وتلف. كل جيل مسؤول عن مصيره ويقوده حسب قدراته وطموحه وشرفة خياله، أيضا، لكن هذا لا يعني التّخلّي عن تركة كي يعبث بها من يشاء بمسميات ورطانات شتى، كما يتفوه خبراء أحزاب معوّقة من الميلاد، وخبراء يدعون الثقافة والصناعة الثقافية والبدائل وينظرون، هم ودولت «هم»، إلينا كائنات مَتْحفية، لذلك لا يحفلون بالكاتب ولا كتابه، والجامعي وتفكيره، هل سمعتم بكلية حملت اسم علال الفاسي أو محمد عابد الجابري، قد شبِعا موتا، أخشى بلا ندم؛ خبراء المحو والنسيان ومحاربة الإبداع والفكر الحر، لذلك يمنعون الماعون عن أهلهما ولا يبالون. لأخفف الضرر وأنقص عن ظهري سياط التشكيك وسماجة أيّ ركيك، أوجّه كلامي الأخير إلى الكتاب وإلى المثقفين المستنيرين الصامتين، لا المُعارين لمنابر نعرفها ومواقع تدرّ الذهب في اللجان والأركان، ويرسلون تقاريرهم بالإسم المستعار من تحت الباب؛ أقول إن كتاب المغرب كان لهم دائما موقف وفي أحلك الأوقات لم يستكينوا إلى الصمت ولا خافوا في الحق لومة لائم. لم ينتظروا سارتر وكامو ليعلمهم معنى الالتزام، ولا غرامشي ليصبحوا مثقفين عضويين، وأنِفوا من طرق أبواب السلطة، ولا همّهم التهافت لنشر أوراق، وسكنى الذات عندهم تقصير شديد وعلى قضايا المجتمع افتئات. لا ألوم أحداً، فالوقت فساد، وإما يئس الناس أو شاخوا أو لا قيمة لغير الجلاوزة في بلاد العرب، ولا أُفقَ بعد أن سلمنا أنفسنا مع الأرض لا ملاذ. سؤالي لكم: يبقى دائما كلمة تقال في وجه اللعب الصفيق، واسترقاق الأخ والرفيق، هي كلمة لا في وجه من يصح فيهم قول الفرزدق» ما قال لا إلا في تشهده/ لولا التشهد جاءت لاؤه نعم». نحتاج أن نولد من جديد إذ أجسادُنا لا تشبه السّحالي وقاماتنا أطول من حجم الأقزام. يكفي أن نبدأ بقول لا وستأتي بعد ذلك الكلمات:
كاتب حقيقي، لن تنقصه الكلمات، سيجد كلماته،
هي طوع أنامله/ وخياله/
كاتب حقيقي/ تأتيه الكلمات من الله هبات/ وإلا../
مثل حطّاب يذهب إليها في الغابات/
لن يضير الغابة إن قطعت شجرة/
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 30/03/2021