الناقد المغربي عبد الرحمن التمارة: لا معنى للمتابعة النقدية إلا في إطار إنتاجها الخلاّق

 

راكم النّاقد والأكاديمي المغربي عبد الرحمن التمارة مُنجزًا نوعيًّا في نقد السّرد الروائيّ والقصصي، ونقد النقد الأدبي، وشكّلت تجربته في الكتابة أفقا رحبا للنقد الروائي بالمغرب، أبان من خلالها عن وعيه بخصّيصة هذا المسلك الوعر وخصوصيته، وهو ما يتبدى أساسا للباحث أو القارئ من خلال رصد منجزه الغني بالموضوعات، والمقاربات التي كرّسها للرواية، والقصة القصيرة، ونقد النقد.
من أعماله الحصيفة: «السرد والدلالة دراسة في تأويل النص الروائي»، «مرجعيات بناء النص الروائي»، «سوسيولوجية الرواية البنية واللغة»، «نقد النقد بين التصور المنهجي والإنجاز النصي»، «الممكن المتخيل: المرجعية السياسية في الرواية»، بالإضافة إلى عدد من المقالات النقدية التي نشرت له في مجموعة من الصحف والمجلات المغربية والعربية.
يطلعنا الأكاديمي عبد الرحمن التمارة في هذا الحوار على مشروعه النقدي الذي أرساه، علاوة على رؤاه في بعض القضايا التي تتصل بالنقد الأدبي:

 

 

 لمن تكتب نقديا، ومتى بدأ وعيك بأهمية النقد الأدبي؟

أكتب لكل مهتم بالنقد الأدبي؛ سواء كان دراسة منتظمة، أم اشتغالاً بحثياً، أم اهتماماً غايته الاستمتاع بالفعل النقدي. أكتب لكل متورط، بالمعنى الإيجابي، في عوالم الإبداع والنقد الأدبيين. أكتب لكل من يؤمن بأنّ النقد الأدبي خطاب قادر على كشف الكثير من مضمرات النّص الأدبي الإبداعي، وقضاياه الثقافية والفكرية والجمالية. أكتب لمن يحلم باستخلاص معرفة من النقد الأدبي، فيتعامل معه بوصفه خطاباً تنويرياً قادراً على دعم الأفق المعرفي للكائن البشري. أكتب لمن يشكّ في أهمية النقد التنويرية والمعرفية والثقافية، فيرميه بكثير من الأفكار والأحكام القائمة في التتفيه والتبخيس والأحكام السلبية. أما زمن الوعي الذاتي بأهمية النقد الأدبي فأقول إنه تبلور لحظة الانتماء إلى الدراسات العليا بالجامعة. إنه الانتماء الذي جعلني أكتشف أن «القول النقدي» لا يقبل العشوائية، ولا يمكن أن نمارسه بناء على معطيات الذهن. بهذا المعنى، فإنّ تجربة التكوين الأكاديمي بالسلك الثالث وسلك الدكتوراه كشفت لي أن الكثير من المعطيات التي كنت أعرفها عن النقد الأدبي، في حدود معينة، لم تكن مكتملة وتامة، بل كان يعتريها الكثير من النقص والقصور؛ حيث تبيّن أن النقد ليس خياراً ميتافيزيقياً، بل يعدُّ اختياراً معرفياً تحكمه المعرفة، وتقوّيه التجربة، وتدعمه «الموهبة» النقدية. لهذا، كانت تلك الفترة الزمنية هامة في تكويني وفي تحقيق وعي معرفي بأهمية النقد الإبستمولوجية؛ أهمية تجعل النقد الأدبي يمارس وفق ضوابط تقطع مع قضية «النقد العاشق»، والمتابعة النقدية التي تميل صوب المقاربة الصّحافية التعريفية، وتقوم على معطيات علمية لا تنفي صوت الناقد ورؤيته للكتب والحياة والإنسان والوجود.

 

حدثنا عن تصورك للنقد؟

n إذا كنت تقصد تصوراً للنقد الأدبي بوصفه ممارسة وغاية معرفية، فإنّ رؤيتي للنقد الأدبي يمكن بسْطها من خلال عدّة عناصر: أولاً، إنّ النقد الأدبي فعل معرفي في منطلقاته ومفاهيمه ومنهجيته، فيتبدّى خطاباً قائماً على «بناء» معرفي نوعي وخاص. إنّ ذلك يُصيّر النقد الأدبي مرتبطاً بفئة خاصة، دون أي معيار تفضيلي على غيرها من الفئات المهتمة بالشأن الإبداعي والأدبي، فيظهر النقد الأدبي مجالاً خاصاً بفئة محدّدة، ومقتصراً على نمط تعبيري نوعي، «وليس ملكاً مشاعاً يصحُّ فيه كلّ ما يقال»، وفق تصور أرمسترونغ. ثانياً، إنّ النقد الأدبي يستدعي، في علاقة سببية، إدراكاً لشروط إبستمولوجية تؤطر كلّ كتابة نقدية. لذلك، فإنّ الإجادة والإلمام والدّقة .. بـ»الكتابة» النقدية، بمختلف أنماطها وسياقاتها، تظّل مطلوبة في كلّ فعل نقدي. بهذا المعنى، فإنّ التّمكّن من امتدادات الكتابة شرط أساسيّ للنقد الأدبي الجيّد، وإلا ضاع النقد والأدب معاً. ثالثاً، إنّ أهمية النقد الأدبي تكمن في إنتاجيته المعرفية؛ فيتراءى النقد الأدبي، من زاوية الوظيفة، مجالاً معرفياً يشتغل بمنطق «التوسّط»، بلغة ولاس مارتن، بين الإبداع الأدبي والفنيّ والثقافة الحاضنة والمنتجة. من هنا، فإنّ النقد الأدبي يصير فعلاً كاشفاً؛ يكشف امتدادات النصوص التاريخية والقيمية والثقافية والفكرية .. ، فيغدو معه النّص الخاضع للنقد الأدبي، مهما كانت طبيعته، نصّاً ثقافياً ممتلئاً بالمعرفة التي تهمّ الذات والإنسان والعالم.

صدرت لك مجموعة من المؤلفات النقدية، حدثنا عن صدى نشر أول عمل نقدي، وما تحتفظ به ذاكرتك حول ذلك المولود؟

إنّ قياس «صدى» أعمال الناقد قد يصعب أحياناً، وتزداد هذه الصعوبة إذا تعلق الأمر بـ»الكتاب الأوّل». لهذا، فإنّه من باب الادعاء التفكير بمنطق «بطولي»، والقول إنّ الكتاب الأول حقق صدى كبيراً لباحث يتلمس خطواته الأولى في عالم النقد. من هنا، أقول أمرين: الأول، إنّ أول عمل نقدي كان هو «جمالية النص القصصي المغربي الراهن» (منشورات وزارة الثقافة، 2010)، تزامن مع المعرض الدولي للكتاب، فكان بيعه، وفق ما أخبرني بعض الأصدقاء، في المستوى المطلوب. لكن، هذا ليس معياراً للحديث عن الصدى المؤثر؛ لأن بيع بضع نسخ في المعرض، بحكم أن الدراسات النقدية حول القصة القصيرة قليلة فيكون أيّ منجز جديد محلّ اهتمام، لا يعبّر عن حجم الصدى المطلوب لعمل نقدي نشرت منه بضع نسخ. والثاني، إنّ صدور كتابي الأولّ، ضمن سلسلة تحمل عنوان «الكتاب الأول» في عهد الفنانة المرحومة الوزيرة ثوريا جبران، كان مسبوقاً بمجموعة من الدراسات المنشورة في منابر ثقافية عربية ومغربية، بل إن جزءاً من متن هذا الكتاب تشكّل من هذه الدراسات، لكن صدوره في كتاب كان له صدى إيجابي على نفسي ومعنوياتي. لهذا، فإن الفرح اللحظي، الذي تزامن مع خبر صدور كتابي الأول، تدعّم بخلق حافز معرفي للسير في «طريق» النقد الشاق والصعب، ولكن المفيد فكرياً والممتع معرفياً.

راكمت منجزا نوعيا في النقد الأدبي، ما الأسس والمرجعيات التي يتأسس عليها مشروعك النقدي؟

n يقوم السؤال على شقين: الأول يهمّ أسس النقد الأدبي، والثاني يخصّ مرجعياته. من هنا، فإنّ الأسس التي توجّه مشروعي النقدي هي المعرفة؛ المعرفة بوصفها إطاراً جامعاً للفعل النقدي في اختيار الموضوع، والاشتغال على النصوص الأدبية، ودعم النّص النقدي بمراجع تقوم على الملاءمة، والقطع مع اللغة «الإنشائية» التي تسيء إلى لغة النقد الأدبي، والرهان على إنتاج معرفة مركبة أثناء تحليل «النصوص» المختلفة، نقدية كانت أم إبداعية، وتركيز النقد على مجالي السرد والنقد الحديثين. فضلاً عن عدم الخضوع لأي سلطة تؤثر في الممارسة النقدية، غير السلطة الإبستمولوجية، مما يفضي، بالنتيجة، لتفعيل «الحكم الناضج» المفارق للأحكام الانطباعية غير المعللة. بهذا المعنى، فإنّ أسس النقد الأدبي، في تقديري، تقوم على «منظومة» متكاملة العناصر؛ النظرية (التصوّر)، والمرجعية، والمفاهيم التي تتطلب الضبط الجيّد. أما المرجعيات التي توجّه مشروعي النقدي، وإنْ كان مفهوم المشروع يرعبني، فهي ثلاثية: إبداعية ونقدية وفكرية. بهذا المعنى، لا أتصوّر خطاباً نقدياً يتحقّق خارج مقتضيات نقدية تكشف حدوده وآفاقه المعرفية، وتضبط مفاهيمه ومنهجه ولغته، وتؤسسه رؤية الناقد وإنجازه النقدي. وإذا كان هذا الأساس النقدي يؤطر خطاب النقد، فإنّ الأساس المعرفي الفلسفي يشيّد المرجعية الضابطة للتفكير في قضايا النقد والأدب. لهذا، أتصور أن ثمة تلازماً بين النقد والفكر الفلسفي والمعرفي الإنساني؛ لأنه تلازم يدعِّمُ التنويع في الطرق المعرفية لدراسة النصوص وتحليلها، ويدعَمُ «التنظيم العقلاني» للممارسة النقدية، دون ادّعاء إنتاج «الحقائق»، لأنّ النقد ينتج الفكر والمعرفة والمعنى، بناء على الموقع والرؤية، ويبرز التطور الديناميكي للفعل النقدي الأدبي.

لا أحد ينكر اهتمام النقاد والقراء العرب اليوم بالنقد الأدبي، خصوصا ما يتصل بالرواية والقصة، في نظرك: كيف يمكن الدفع بهذا الاتجاه إلى الأمام مغربيا وعربيا؟

إنّ الممارسة النقدية لا تقاس بطبيعة العمل الإبداعي الذي تشتغل عليه، سواء كان رواية أم قصة، بل تقاس بطبيعتها المعرفية الخاضعة لضوابط الفعل النقدي. من هنا، في تقديري لا توجد وصفة جاهزة نقول عنها إنها الأمثل للدفع بالنقد الأدبي لتقديم إضافات نوعية، بل ثمة طرق نقدية متنوعة تمنح للنقاد إمكانات هائلة في دعم الأفق الديناميكي للفعل النقدي. لهذا، فإن المواكبة المعرفية تكتسي أهميتها في هذا السياق؛ مع ما يستتبعها من «عقلانية» الفعل النقدي، وإنتاج نقدي أسُّه «الصناعة» المعرفية لا الأهواء الذاتية، وتفعيل «نجاح» النقد في الإحاطة والفعل.

ما المواصفات التي ينبغي توفرها في العمل الأدبي رواية أو قصة ليجد صدى عند النقاد؟

. أقول، بكثير من الاطمئنان، إن المواصفات التي يجب توفرها في العمل الأدبي، بغض النظر عن انتمائه الأجناسي، يمكن أن أختزلها في عنصرين: الإجادة والإفادة. بهذا المعنى، لا يمكن أن يهتم النقد الأدبي بالعمل الإبداعي إذا لم يكن قد تأسس على قانون الإجادة للنصّ، وإذا لم يكن ممتلئاً معرفياً بما يفيد المتلقي ويؤثر فيه جماليا. من هنا، فإنّ النقد الأدبي يتّجه للعناية بالنص الأدبي الذي يخلق تأثيراً (الإفادة) لدى المتلقي جمالياً ومعرفياً، ويكون بناؤه قائماً على مواصفات نوعية تجعله محقِّقاً للإضافة والجِدَّة. لهذا، فإنّ العمل الأدبي الإبداعي الفنّي الممتلك لتميّز نوعي، من زاويتي البناء الدلالي الفكري والبناء الجمالي الفنّي، يكون مثيراً للفعل النقدي الجادّ والمسؤول. بهذا المعنى، ومن موقع تجربة شخصية ، فإن الانشغال النقدي بإبداع فيه الكثير من الاختلالات، بهدف التصدّي للإنتاج الأدبي الرديء باعتباره فعلاً لا يخلو من نزعة لـ»تكميم» الأفواه، يعدُّ مضيعة للوقت. لهذا، فإنّ النقد الحقيقي، في تقديري، يتجهُ للعناية بالأعمال الإبداعية التي أسُّها الإجادة البنائية، وهدفها الإفادة المعرفية. لذلك، أقول إنّ «الصمت النقدي»، غير المؤطر برؤية إيديولوجية أو صراعات شخصية أو نزعة عرقية ..، يعدُّ تقويماً مضمراً لما يُنتجه الأدباء في مشهد ثقافي معين. من هنا، لا معنى للمتابعة النقدية إلا في إطار إنتاجها الخلاّق، عبر قراءة نقدية تنشُد الإضافة والتجديد، وليس عبر خطاب نقدي يؤجج الصراعات، ويكشف القبح الذي يفوق الجمال في العمل الأدبي.

 

كيف تقيّم درجة الاهتمام بالنقد الأدبي في المحافل والمختبرات العلمية بالمغرب من جهة، والمجلات التي تعنى بالسرد من جهة أخرى؟

إن الحديث عن «الدرجة» في تقويم الاهتمام بالنقد الأدبي يكشف انشغالاً بقضية «كميّة». قد لا تسعفني الإحصائيات للحديث عن تلك الدرجة بكثير من الدّقة المعرفية. ولكن واقع الحال، من خلال معرفتي بالمشهد النقدي، يبيّن أن الاهتمام بالنقد الأدبي يشغل حيزاً مهماً في المؤسسات الثقافية، من خلال هياكل بحثية وأحداث معرفية (مختبرات، فرق بحث، ندوات، لقاءات ..)، ومن خلال منابر وحوامل ثقافية (مجلات، ملاحق ثقافية، إصدارات جماعية ..). إنّ هذا الحضور النوعيّ يكشفُ أن الحديث عن سؤال الأزمة والمأزق والصمت ..، وكلّ «المآسي» التي يوصف بها النقد الأدبي تعدُّ جزءاً من خطاب، وليست «حقائق» يقينية. لهذا، إذا كان الحضور الدّال للنقد الأدبي في كثير من المنابر والفضاءات والمحافل والمؤسسات .. دليل قاطعٌ على دينامية نوعية يعيشها هذا النمط التعبيري؛ في كثير من تحققه يتراءى نقداً خلاقاً، مما يصيّره مرجعاً مهما ومفيداً للباحثين والدارسين. إنّ الموضوعية العلمية تقتضي الاعتراف بأنّ الحضور المشار إليه سابقاً لا يقترن بإثبات وجود مثالي للنقد الأدبي في تحققه وحضوره وانتشاره؛ لأنّ كثيراً من التجارب النقدية (كتب، مقالات، لقاءات ..) تتبدّى مجرّد «كمّ» كتابيّ لا يعبّر عن حقيقة الفعل النقدي الإبستمولوجية التي تقتضي تحقّقه ضمن سياق تعبيري أُسّه الامتلاء المعرفي.

إلى أي حد تتفق معي في القول: إن فوز مؤلفك « الممكن المتخيل المرجعية السياسية في الرواية» وما حظي به من إقبال أو تثمين يعكس أساسا نجاح مشروعك النقدي عموما، وما تروم منه خصوصا؟

أشكرك بداية على هذا التقويم الإيجابي لمشروعي النقدي. وإذا ثبت أنه مشروع «ناجح» فلا يمكن إلا أنْ أشعر بالفخر المقرون برغبة أكيدة لتجويد هذا المشروع بدراسات لاحقة، أشتغل عليها ببطء وجهد معرفي مخافة «الانحراف» عن خط الإجادة والإتقان. لهذا، أقول يصعب عليّ الإقدام على تقويم ذاتي، قد لا يخلو من نزعة ذاتية، برؤية تمجيدية؛ لأني أتصور وأفترض أن النقد الأدبي عملّ تبلوره القوة المعرفية، والجهد المستمر، والاطلاع المتنوع، والمواكبة الدائمة، والاستمرارية في الكتابة ..، وليس رؤية نرجسية، بمعناها المرضي، أثناء الإقدام على بلورة جزء من مشروع نقدي ممتدّ وطويل، ربما، قد لا يكفي العمر كّله لإنهائه كلّياً. من هنا، فإنّ نجاح مشروعي النقدي يعدُّ رهاناً ذاتياً، ولكن بما يلائم الضوابط المعرفية المتحكمة في إنتاج النقدي الأدبي. لهذا، أفترض أن الإقبال على ما أكتبه، وتثمينه إيجابيا، متولّد من روح داخلية تسري في تفاصيل الممارسة النقدية التي مركزها احترام القارئ، والتعامل معه بوصفه أسّاً مركزياً في كلّ فعل كتابي، مهما كانت نوعيته، فيكون مؤثراً، بطريقة ضمنية، في آفاق الكتابة النقدية واستراتيجياتها، لكن بما يلائم الضوابط المعرفية المؤطرة لكلّ ممارسة نقدية جادة ومسؤولة.

 


الكاتب : حاوره: عبد الرحيم سكري

  

بتاريخ : 09/04/2021