سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.
بداية أود استهلال الحوار بمقالك المعنون “الفلسفة وكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة” وقد لفت نظري فيه فكرة مهمّة حين قلت إنّ: “البشر” مجرّد مساحة بكتيريّة أو فيروسيّة عابرة للأجسام الحيوانيّة، وليس “صورة” إلهيّة مطبوعة على صلصال مقدّس. إنّ الفيروس مثل الهاتف أو السّينما أو الطّيران أو «موت الإله” التّقليديّ، هي أحداث ميتافيزيقيّة تعيد ترتيب العلاقة مع «المحسوس» بما هو كذلك، وذلك بأن تتجرّأ لأوّل مرّة على الدّخول في علاقة تكنولوجيّة مع «اللاّمرئي» بوصفه جزءاً لا يتجزّأ من مادة الكينونة في العالم كما تنفعل بها أجسامنا”. سؤالي هنا من شقين: أوّلاً، هل كسر الوباء صورة الإنسان المتألّه، أي ذلك الإنسان الّذي هو مركز الكون وصورة لله: “فخلَقَ للهُ الإنسان على صورَتِه” كما أظهرتها الدّيانات الإبراهيميّة؟ وماذا يعني أن يواجه التّكنولوجي المقدّس/ اللاّمرئي وما هي حدود صراع بينها؟
عن الشّقّ الأوّل من السّؤال يمكن المجازفة بالقول: إنّ عصر الفيروسات – الّذي ما زال في بدايته- قد أخذ يضع فكرة «آدم» التّوحيديّة في خطر مربك، ويفرض مراجعتها. وعن الشّق الثّاني علينا أن نجيب: إنّ “اللاّمرئي” قد غيّر طبيعته، وأنّ عصر التّقنية يرسم مستقبلاً جديداً لفكرة «الغيب» الّتي تشكّل العتبة الأخلاقيّة لمنزلة «الآدميّة». إنّ الإنسانيّة مقبلة على “سفر تكوين” من نوع آخر: إنّ الوباء “لا مرئيّ” لكنّه لا ينطوي على أي دلالة «روحيّة».
تفيد دروس الأنثروبولوجيا منذ نهاية القرن التّاسع عشر بأنّ “آدم” اختراع ثقافي (للتّقاليد الإبراهيميّة) مختلف عن «البشر» أو «الإنسان» بما هو حيوان يمكن أن نؤرّخ له داخل سرديّة الحياة على الأرض، حسب وتيرة تطوريّة معيّنة كما صرنا نقول منذ داروين. ومن المعلوم أنّ “آدم” شخص سردي ظهر في سفر التّكوين العبرانيّ، لكنّ جذر اللّفظ ليس “عبريّاً” فقط، بل له جذور مختلفة. وإنّ الحفريات تؤكّد أنّ هذا الاسم قد عُثر عليه في لغات سامية عديدة مثل ألواح باللّغة «الأوغاريتيّة»(Ougaritique) الّتي تكلّمها النّاس في الألفيّة الثّانية قبل الميلاد في شمال سوريا، وكان يُشار به إلى “البشر”. ثمّ انتقل إلى اللّغة العبريّة، ومن ثمّ قد يُقال إنّ قرار الإله التّوحيديّ بخلق “آدم” هو الّذي حوّل “الأرض” إلى “أدمة” وليس العكس. لكنّ “آدم” قد يكون منحدراً من لفظ آخر يعني “الأحمر” مثل الدّم (كما في الأساطير البابليّة). ومن المفيد أن نذكّر بأنّ “آدم” في السّرديّة التّوراتيّة لم يحتفظ باسمه، بل بمجرّد أن “تكلّم” و”سمّى” زوجه حوّاء، هو قد صار يسمّى “يش” (Yod-chin) أو “ياشين” بالعبريّة أي “الإنسان”. وربّما يفيدنا الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هنا: كان “آدم” يشير إلى “أنا” مغلق على نفسه، أي إلى “ماذا” جاهزة، وكان له “ماهية” أو “صورة” إلهيّة لا يمكن معرفتها؛ لكنّه عندما انفتح على “الآخر” هو أصبح عندئذ يشير إلى “من”؟ وصار “يش” أي “إنساناً”، ومن ثمّ صار له “وضع بشري” حسب عبارة حنا أرندت.
إلى حدود أواسط القرن التّاسع عشر كان التّوحيديون (وهو لقب إبراهيمي ينسحب على كلّ مجتمعات الكتاب) في خطابهم يفترض مرادفة عميقة بين شخصيّتيْ “آدم” و”الإنسان”، كما نرى إلى روسو كيف يقول:” إنّ آدم سيّد العالم مثلما روبنسون في جزيرته”.
لكن منذ داورين لم يعد ذلك ممكناً، وصار للمفهومين تاريخان منفصلان. بل يبدو أنّ “آدم” قد أخذ في الانسحاب من ميدان “الإنسان” الّذي تحوّل في الأثناء (إبّان “الأزمنة الحديثة”) إلى “ذاتيّة” مستقلّة بنفسها بعد أن أصبح مكان الإله التّوحيديّ (الإله الخالق أو الشّخصي) شاغراً. كان ثمّة تفويض أو تسخير “إلهي” يسمح لآدم بأن “يسمّي” الحيوانات كعنوان على “ملكيّته” لها. لكنّ التّفويض التّوحيدي قد تمّ التّخلّي عنه لفائدة “سيادة” ميتافيزيقيّة من نوع جديد: إنّها سيادة “الإنسان/الذّات” الّذي عوّض سلطة الدّين بسلطة الدّولة/ “الإله الفاني” حسب تعبير هوبس الشّهير.
من أجل ذلك فإنّ عصر الفيروسات يتخطّى في طرافته حتّى خطّة داروين الهادفة لإعادة “الآدميين” إلى مصاف “البشر”. هذه المرّة لم يعد “آدم” حتّى “إنسانًا”: أعني أنّنا صرنا فجأة ليس فقط من دون تفويض إلهي للسّيادة على الحيوانات بل إنّ الفاصل الأخلاقي الّذي تمّ رسمه بعناية مقدّسة بين “الإنسانيّ” و”الحيوانيّ” من أجل الدّخول في عصر “الآدميّة” (نعني سيادة البشر على الحيوانات باسم تفويض إلهي) هو نفسه قد انهار بشكل مرعب.
ذلك أنّ الفيروسات (الّتي هي على الأرجح أوّل الكائنات العضويّة الّتي لها حمض نووي وهي أقدم حتّى من الميكروبات الأكبر سنّاً) تنتمي إلى تاريخ “وراثي” سابق على ظهور “الخلايا” البشريّة وعلى ظهور “الإنسان” نفسه، ومن ثمّ هو غير محمي منها بأيّ نوع من التّراتب الأخلاقيّ.
كانت النّتيجة المفزعة الأولى للعصر العلمانيّ الّذي دشّنته الحداثة (ما بين القرن السّادس عشر وأواسط القرن التّاسع عشر) هو تجريد “آدم” من رتبته السّياديّة على عائلة الحيوان. فجأة وجد آدم نفسه وقد جُرّد من تفويضه الإلهيّ وصار يُعامَل بوصفها واحداً أو عضواً عادياً من تلك العائلة. لقد ترك مكانه الأخلاقي لنوع ثقافي جديد هو “الإنسان/الذّات” الّذي وصفه ديكارت بأنّه يريد أن يصبح “بمثابة مالك للطّبيعة وسيّد عليها”. لكنّ اكتشاف نمط كينونة من نوع غير مرئيّ اسمه “الفيروسات” سنة 1892 قد كان حدثاً ميتافيزيقياً مرعباً لأنّه بعثر كلّ المعارك الأخلاقيّة للإنسان التّقليديّ أكان توحيدياً (بوصفه “آدم”) أو وثنيّاً (بوصفه “بشرا”). وفيما يخصّنا “نحن” – بوصفنا نوعاً بشريّاً يندرج في فصيلة التّوحيديّ الأخير- فإنّ دخول عصر الفيروسات يشكّل خطراً معياريّاً مزدوجاً: من جهة، هو يعيد طرح قضيّة “الآدميّة” بشكل غير مسبوق: إنّ آدم/المخلوق على “صورة” الإله الخالق (فكرة سفر التّكوين الّتي نشرها أغسطينوس وعادت إلى الخدمة في الثّقافة الأوروبيّة في القرن السّابع عشر كما نرى ذلك لدى ديكارت في “التّأمّلات الميتافيزيقيّة”، وإنْ كان ذلك من أجل تأسيس فكرة الكوجيطو أو “الأنا أفكّر” الحديث وتعويض “آدم” التّوراتي بمفهوم “الإنسان” الحديث) – إنّ آدم هذا قد فقد فجأة عصمته الأخلاقيّة الّتي كان يستمدّها من إرادة “الخلق” الّتي جعلته في “أحسن تقويم”.