وضعية اليهود المغاربة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر 2- الخصوصية التاريخية ليهود المغرب

تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..

لقد كان للمغرب السبق في الإيمان بفكرة التعايش بين الأديان منذ قرون خلت وهو ما يوضحه أرشيف مديرية الوثائق الملكية؛ إذ يتضح من خلال فحص مظانه أن المخزن العلوي تدخل مرات عديدة لصالح اليهود من أجل إنصافهم من بطش ساكنة متهورة، أو ضد جور قائد متعسف في حقهم. وأحيانا تفصح هذه الوثائق عن طغيان المحميين اليهود واستفزازاتهم المتكررة للمخزن أو جيرانه المسلمين. وعلى الرغم من أن فئة عريضة منهم كانت موظفة في البلاط المخزني ، وأخرى تربطها بالمخزن علاقات تجارية رفيعة المستوى في إطار منظومة تجار السلطان، إلا أن أحداث القرن التاسع عشر التي يمكن قراءتها انطلاقا من فقدان المغرب لهيبته في هزيمتي إسلي(1844) وتطوان (1859-1860)، وتنازله عن حقوق اقتصادية لصالح الدول الأجنبية في إطار ما تنص عليه المعاهدات الدبلوماسية، ستغير من طبيعة هذه العلاقات الكلاسيكية وستفرض على المخزن شروطا احترازية للتعامل مع الأقليات، ولربما تداول هذا الموضوع في أشغال المؤتمر الدولي لمدريد (1880) لخير دليل عن ذلك في وقت تعالت فيه الأصوات المنددة بأعمال العنف المقترفة في حق اليهود المغاربة.
بناء على كل ما سبق يمكن أن نتساءل إلى أي حد ما ساد التعايش والسلم بين اليهود المغاربة وجيرانهم المسلمين انطلاقا من اقتفاء أثرهم في المراسلات المخزنية؟
قام اليهود المغاربة بدور وظيفي انتهت صلاحيته مع حلول دولة الاستعمار، إلا أن هذا الدور تراجع بفعل عامل الهجرة والتحول من منطق الجماعة الوظيفية تجاه المغرب إلى جماعة وظيفية الحكم. وتعتبر ظاهرة أولياء الله الصالحين مصدرا أركيولوجيا يمكنه مساعدتنا في المقاربة التاريخية ليهود المغرب، فبعض الدراسات أحصت ما مجموعه ( 652 ) وليا يهوديا منهم (126 ) مشتركا مع جيرانهم المسلمين و (16) وليا صالحا مسلما يقدسه اليهود، و (90 ) وليا يهوديا عند المسلمين، و( 36 ) وليا محط نزاع بين الطرفين. كما أن اليهود يجمعون اليوم على أن المغرب استقبلهم بمنطق التسامح منذ خراب الهيكل الأول عام ( 586 ق.م)، وكذا بعد ترحيلهم من الأندلس وهجرتهم من إسبانيا سنة( 1492) خوفا من محاكم التفتيش. ويرى عبد الوهاب المسيري مجيبا عن سؤال من هو اليهودي؟ أن الجماعات اليهودية في العالم طورت هويات يهودية خاصة بها، في وقت تغيبت فيه سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، ومن خلال التثاقف كذلك مع مكونات حضارية متعددة، مما يعني أنه يصعب الحديث عن هوية يهودية واحدة كما هو الحال في مجتمعات الشرق ــ أوسطية. وبالنسبة لجماعات اليهود المغاربة فإنها اتسمت بتدينها والتزامها الحرفي بالأسفار اليهودية ومرجعيتها في المعتقدات التوراتية والتلمودية.
يهود المغرب وجيرانهم المسلمين بين النزاع والتعايش السلمي:
حسب الدراسات التي أنتجت حول مسألة التعايش بين اليهود المغاربة وجيرانهم المسلمين يتضح أن هناك عدة تيارات ما بين متقبل لهذه الفكرة ورافض لها ورأي آخر وسطي؛ والراجح أن مقاربة هذا الموضوع يستدعي رفع الحصار عن الوثائق الأجنبية سيما وأن موضوعا كهذا ما يزال بكرا ولم يتم التطرق إليه، اللهم الإشارة في مراجع بعينها، وبإمكان مؤسسة أرشيف المغرب أن تزيل اللبس عن هذا الموضوع، علما أنها تسلمت رصيدا مهما لم يسبق لباحث أن اعتمده. ولربما تفصح هذه الأرشيفات، إذا ما حللت تحليلا دقيقا، عن الحالة المزرية التي عانها اليهود عبر التاريخ مما جعلهم يستنجدون بالاستعمار ويَتوقون لتأسيس دولتهم المزعومة، وفك ارتباطهم بالدول الحامية ومنها دولة المغرب. ومن جهة أخرى ظهرت كتابات خلال النصف الأول من القرن الماضي تتحدث عن فكرة التعايش وتنوه به لكن لأغراض غير موضوعية، وقد اعتمد أصحابها معطيات غير دقيقة لتحجيم فكرة التعايش وخدمة أجندة الدولة الصهيونية التي ترفض رفضا باتا أنه حدث في يوم من الأيام تسامح وتعايش فيما بين اليهود وجيرانهم المسلمين. إننا بحاجة اليوم إلى دراسة جامعة حول هذا الموضوع تنطلق من مراجعة شاملة للأحداث التاريخية التي زادت من توتر الأوضاع بين الطرفين، وغذت النزعة الانتقامية لدى الطرفين. فكلى التيارين وظفا لأغراض سياسية؛ إذ نجد المدافعين عن فكرة التعايش كان غرضهم التطبيع مع دولة إسرائيل، في حين الرافضين لهذه الفكرة حاولوا إدماج اليهود في المشروع الكولونيالي. وفي نظري يكمن الحل الأنسب في ضرورة الانطلاق من المرجعية التاريخية والوقوف عند المحطات التي عانى فيها اليهود المغاربة أو انتقموا؛ أي في فترة الضعف وفترة القوة، وذلك بدراسة العلاقة التي جمعت بين اليهود المغاربة والمخزن من جهة، وبينهم وبين العامة من جهة أخرى.
إن الملاحظ أن اليهود المغاربة عاشوا في جو من التسامح تبرهن عليه مظاهر إنسانية؛ كتبادل التحية والهدايا أيام العيد، وكذلك الوظائف السامية التي كانوا يقومون بها في أجهزة الدولة وفي البلاط المخزني، ومن جهة أخرى ساهمت أحداث بعينها في توتر هذه العلاقة حيث وصلت إلى حد التصفية الدموية كما حصل في عهد الموحدين أو في عهد السلطان المولى يزيد، أو في حالات الصدام بين عموم المسلمين واليهود بسبب سلوكيات بعض اليهود المستفزة كما حصل سنة ( 1276هـ) عندما انتهك يهودي حرمة امرأة مسلمة. والملاحظ أن البلاط المخزني استفاد من قوة اليهود في تدبير أزماته الدبلوماسية والداخلية كما أن الطرف الثاني استفاد هو أيضا من تنمية ثرواته التي سيكون لها وقع إيجابي على عموم اليهود مباشرة بعد عملية التهجير إلى أرض فلسطين وتنامي فكرة القومية عندهم.
والخلاصة أن اليهود المغاربة كانت لهم نزعتان تتضاربا و فكرة التسامح والتعايش؛ أولهما نزعة الانفصال وفك الارتباط مع دولة المغرب حيث وصلت إلى درجة الوقاحة على حد تعبير محمد كنبيب وهي حالة يهود فاس، معتبرا إياها إحدى المحاولات الأكثر جرأة ووقاحة لتأكيد استقلالية «الإسرائيليين»، وهي نفس الملاحظة التي سبق وأن أوردها المؤرخ محمد المنوني في كتابه عن المصادر العربية لتاريخ المغرب تحت عنوان «تجاوز يهود فاس لتبعيتهم المغربية». (وما هي النزعة الثانية)


الكاتب : الدكتور ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 15/04/2021

أخبار مرتبطة

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن الأحد انسحابه من السباق الرئاسي لعام 2024 بعد أسابيع على الشكوك التي أحاطت بصحته الجسدية

عرفت الولايات المتحدة أسبوعا قل نظيره في تاريخ البلاد مع نجاة مرشح للانتخابات الرئاسية من محاولة اغتيال وانسحاب آخر من

بدأ انتشار الحشرة القرمزية في العام 2014 في المغرب، ثم وصلت تدريجيا إلى الجزائر وتونس في العام 2021، وهي عبارة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *