وضعية اليهود المغاربة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر -3-

جهود الحسن الأول لاحتواء أزمة يهود المغرب

 

تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..

 

اليهود المغاربة ضمن السياق العام لحكم مولاي الحسن:

حكم المولى الحسن الأول (1873/1894) المغرب في ظرفية حرجة؛ فمن جهة هناك الهزائم العسكرية والديبلوماسية التي تعرض لها البلد خلال فترة حكم المولى عبد الرحمن بن هشام (1822/1859) وابنه سيدي محمد (1859/1873)، ومن جهة أخرى أصبح المغرب يعاني في ظل هذه الهزائم وضعية خروج جزء من الساكنة عن طاعة المخزن مما جعل هذا السلطان يعيش فترة حكمه على صهوة جواده على حد تعبير المؤرخ أبي العباس ابن خالد الناصري. والراجح أن اليهود المغاربة عاشوا في المغرب وفق قوانين أهل الذمة ولم تتعرض حياتهم للخطر إلا في فترات متقطعة كان أخطرها فترة الفراغ السياسي الذي تلى وفاة سيدي محمد بن عبد لله (1757/1790) وبخاصة مع المولى اليزيد (1790/1792) الذي ارتبط اسمه بعدائه الشديد ضد اليهود المغاربة وهو ما شجع البعض على اقتراف جرائم في حقهم ماتزال آثارها موشومة في الذاكرة اليهودية كما هو الحال مع حادثة انتفاض الفاسيين ضد يهود المدينة سنة (1275) وهي من أبرز لحظات التوتر بين المسلمين وجيرانهم اليهود خلال الفترة الوسيطية ، وحسب الوثائق فإن تدخل السلطان المريني أبا يوسف يعقوب بن عبد الحق (1286م/1259م)كان حاسما لوضع حد للاحتقان الذي حدث في فاس، والذي يمكن قراءته من خلال عمليات النهب والسرقة والتخريب وكذلك حادثتا الحرق والنهب اللتان تعرض لهما يهود إفران الأطلس الصغير من قِبَل الثائر بوحلايس في منطقة الأطلس الصغير الغربي، مما جعل اليهود يؤلفون الكثير حول هذه الفاجعة بشكل تجاوز الموضوعية بل إن أحفادهم اليوم يحتفظون بالعديد من ذكرياتها السيئة التي وشمت ذاكرتهم. وهو ما لا يتجزأ من هوية اليهود وثقافتهم سيما وأنهم يحتفظون دائما «بسفر الذكرى» و»سفر المواليد والوفيات» في بيعهم. إن المصدر الوحيد الذي يؤرخ لهذه الواقعة هو كتاب «نزهة الجلاس في أخبار بوحلايس»، لصاحبه محمد بن يعقوب السملالي الذي اعتمده الإكراري في «روضته» ومحمد المختار السوسي في «معسوله»، وهي مصادر اعتمدها أحد الباحثين لاستعراض حيثيات ووقائع حدثي الحرق والنهب اللذين تعرض لهما اليهود؛ علما أن النص المخطوط لم تتم مقارعته بنسخ أخرى يوجد العديد منها لدى الأسر السوسية – التي عانى أجدادها ويلات ما عناه اليهود- حتى يمكن الوقوف على حقائق هذه الواقعة دون مبالغة أو تقصير. ولعل اليهود يتذكرون مولاي اليزيد أو « مْزيدْ»، بلسانهم، (1790-1792) أكثر من بوحلايس الثائر، وإذا كانت فترة هذا السلطان من الفترات المهمشة في التاريخ لمواقفه وسلوكياته ضد اليهود، فإن دراسة لغمائد زادت من حدة هذا التهميش ولم تبرز السلطان كفاعل في عملية الحرق سيما وأن المدعو بوحلايس ادعى أنه هو مولاي اليزيد؛ وما حرقه لليهود إلا صورة أراد بها تجسيد شخصية اليزيد عند عامة الناس، ويمكن للقارئ الرجوع إلى أهم الأعمال التي تؤرخ «للمحرقة» والتي نقترحها لاغناء هذه النقطة وهي رواية اليهودي أشر كنافو.

الخطاب المخزني الرسمي والخطاب اليهودي الموازي ضمن أشغال مؤتمر مدريد (1880):

نظرا لأن الظرفية الدولية كانت تملي على المغرب ما يجب فعله بخصوص الأقليات التي بدأت تفرض نفسها في المحافل الدولية خاصة تلك المتمتعة بالحماية القنصلية، فإن أصواتا منها تعالت في مؤتمر مدريد الدولي تطالب بالإنصاف والحماية من لدن المخزن، كما أن هذه المطالب ظلت تتكرر في العديد من المراسلات ذات الطابع الرسمي، وفي هذا السياق نجد مضان وثائق القصر الملكي الخاصة باليهود توضح كثرة طغيانهم وتجبرهم وجراءتهم على المسلمين وهو عكس ما كان يشاع في الصحافة الأجنبية ووثائق القنصليات والأرشيفات الأجنبية. ونظرا لأن المغرب كان مسرحا للتسابق الإمبريالي فإن الوزراء الأجانب افتروا على المخزن اضطهاده لهذه الأقلية للضغط عليه من أجل قبول فحوى بعض المعاهدات التي ستكون عواقبها وخيمة فيما بعد، وبالتالي توفير الشرعية لتبرير التدخل الأجنبي في شؤون وسيادة المغرب.
تعتبر الحماية القنصلية السبب الرئيسي الذي غير وضعية اليهود من فئة كانت تابعة للمخزن، بواسطة عقد، الذمة إلى فئة متجنسة ومحمية من قِبَل الدول الأجنبية. وقد خلقت الحماية القنصلية مشاكل كثيرة ومعقدة منذ عهد المولى عبد الرحمان بن هشام (1822/1859) الذي انتشر في عهده وباؤها عندما أصبح يهدد المغرب في سيادته ويمس جزءا ليس باليسير من مدخوله الضريبي، فقد كانت انجلترا السباقة للفوز باتفاقية (1856) التي ارتقت بها إلى مستوى الدولة الأكثر تفضيلا، وبغض الطرف عن الامتيازات التي حصل عليها التجار الإنجليز بموجب هذه الاتفاقية؛ إذ أصبحوا يصدرون ويستوردون بأقل من عشرة بالمائة كهامش للربح بالنسبة للجمارك المغربية، إلا أن الاتفاقية خبأت في طياتها بنودا تهم القضاء القنصلي والامتيازات التي كان يحصل عليها المحميون من لدن هذا البلاد كعدم خضوعهم للقضاء المغربي وتملصهم من أداء الضرائب وهو ما زكى لدى اليهود المغاربة نعرات انتقامية ضد المخزن الذي مارس عنفه عليهم في فترات أزمات الحكم المركزي، وبعد هزيمة المغرب أمام الإسبان في حرب تطوان تزايد الطلب على الحماية القنصلية وهو ما اضطر فرنسا للفوز هي أيضا بنفس الامتيازات التي حصلت عليها إسبانيا وإنجلترا، وفي هذا السياق وُقِّع اتفاق (بن إدريس-بيكلار) السري (1863) مما جعل المغاربة مسلمين ويهود يتسابقون للاحتماء بإحدى هذه الدول، ونظرا لأن المغرب أصبح على شفى حفرة المخطط الاستعماري فإن المولى الحسن الأول سابق الزمن ودعا إلى عقد مؤتمر دولي لتدويل قضية الحماية ووضع حد لطموحات المغاربة المسلمين واليهود والأجانب الذين اغتنوا بهذه الحماية. وبالعودة إلى المراسلات المخزنية يتضح أن السلطان استشاط غضبا من تصرفات اليهود الذين خرجوا عن طاعته وما تمليه عقود أهل الذمة ففي( 26 من رمضان1297 الموافق ل4 شتنبر 1890) راسل هذا السلطان وزيره في الشؤون الخارجية «محمد بركاش» في موضوع طغيان اليهود وجراءتهم على المسلمين، ويتضح من الرسالة أن أحد اليهود المدعو «يعقوب القصري» والذي دخل في نزاع بالضرب والجرح مع المدعو «الطاهر بن محمد المجذوبي» وكيل «الجيلالي بن عزوز السباعي» وأن هذا الأخير كان قد اتهم باطلا من طرف الذمي أنه أقرض مائتي ريالا وفق ما ينص مضمون الرسم المزور، انهال عليه بوابل من السب والشتم والضرب المبرح واحتجزه لمدة يوم ثم نقله إلى عامل منطقة الغرب، وهو ما جعل السلطان يثور غضبا منبها إلى ضرورة إقامة العدل والقطع مع مثل هذه التصرفات ناعتا عامل الغرب وحاشيته بأبشع النعوت. كما طلب منهم إيفائه باليهودي والمتعاونين معه مكبلين على الحضرة العالية بالله.
ولما انتشر وباء الحماية القنصلية تجبر اليهود وهذه المرة على أبناء ملتهم غير المحميين، ويتعلق الأمر بقضية الذمي المحمي بالإنجليز «جاك ولد الرومية» و»الذمي حيِّيم بن خباش» مما جعل السلطات المغربية في شخص عامل أسفي «الطيب بن هيمة» يراسل على عجلة عامل مراكش «أحمد بن مالك البوخاري» الذي طلب منه عرض القضية على قنصل بريطانيا بأسفي وإجراء العقوبة لسد الذريعة و إخماد الفتنة لأنه لا يستطيع معاقبته إلا بإذن حاميه ولقد أجاب عامل أسفي بأن القضية لابد أن يفصل فيها السلطان بنفسه بعد عرضها على وزيره في الخارجية محمد بركاش .


الكاتب : الدكتور ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 16/04/2021