فتحي المسكيني: الفيروس يبحث عن الآخر كي يسكنه

سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.

ما الّذي يمكن استنتاجه من الملاحظات السّابقة؟
إنّ الفيلسوف “الغربي” يبدو اليوم مجرّد “ناقد” عدمي منهك لا يملك في جعبته سوى وصفات جانبيّة لأزمة الوباء. وحتّى عندما يكون شيوعياً (مثل جيجيك أو باديو أو موران) أو كان “ليبارتاريا” أو “فوضويا” (مثل شومسكي) فهو لا يقترح شيئاً مهمّاً بالنّسبة إلى الإنسانيّة “غير الغربيّة”. إنّه يكلّمها من خارج قدرها؛ ويكتفي بوصفات “الحجر المنزلي” مثل الدّولة الّتي يجدّف عليها -كما فعل ألان باديو الّذي يقول “إنّ الحلّ الوحيد هو ‘أن أحتجز ‘أن يبقى المرء عند نفسه›(rester chez soi)”، وأنا أترجم بشكل حرفيّ قصداً حتّى أبرز فهم الغربيين للعلاقة بين “الذّات” و»المكان».
لكنّ «الغرب» أخطر من أن يختزل نفسه أو دوره في «رجاء» إيديولوجي (جيجيك) أو نداء إيكولوجي (موران) أو نصيحة «إتيقيّة» (باديو) أو نقد “للهشاشة” الاجتماعيّة (جوديت بتلر)..
كنّا نظنّ أنّ الغرب جهاز معنى أكثر شأواً من ذلك. ويشعر القارئ “غير الغربي” بأنّ المفكّر في الغرب قد فقد دوره الفلسفي الكبير، وتحوّل إلى مجرّد “ناقد” طهوريّ لسلطة أو قوّة أكبر من عقله لأنّها بالتّحديد هذا “العقل” نفسه وقد تجسّد في «مؤسّسات» أو «أجهزة» أو “تعليمات” تخطّت قدرة الإنسان الدّيكارتي على السّيطرة عليها أو ملكيّتها. وحين يصبح “النّاقد” مهرّجاً تعود الثّقافات إلى مخزونها الهوويّ، حيث يستعيد الدّين خاصّة دورها الوعظي. ولكن عندئذ لا معنى لأن يصبح الغرب (الّذي استعاد تمارينه الرّوحيّة الخاصّة) مدرسة نتعلّم فيها نحن “غير الغربيين”، تعاليم “البقاء في المنزل” أو “العودة إلى البيت”. ففي هذا النّوع من الأخلاق يفقد الغرب أفضليته “ما بعد الحديثة” ولا يستطيع حتّى أن يتساوى مع “الجماعات” البشريّة “الموازيّة” للحداثة.
ولذلك فإنّ ظاهرة “الفلسفة السّائلة” (حتّى وإن كان توصيفا مناسبا) لا يجب أن تكون خبرًا سارًّا: إنّ “السّائل” حسب باومان، منذ كتابه “الحداثة السّائلة” سنة 2000 حتّى آخر كتبه ريتروطوبيا (Retrotopia) المنشور سنة 2017،- هو “العيش في عدم اليقين” أو “زمن الأزمة” بوصفه “حالة” أنموذجيّة للحياة الرّاهنة على كوكب الأرض كما يمكن تصويره في أفق “الغرب” بوصفه أنموذج الحضارة السّائدة اليوم. وكان باومان قد اخترع مصطلح “المجتمع السّائل” منذ سنة 1998 للإشارة إلى وضع الإنسان ما بعد الحديث: الإنسان الزّائل، الهشّ، الّذي يمكن تعويضه، الّذي لا وجهة له ولا مستقبل محدّد، الإنسان/الفضلات أو النّفايات الّتي يلقي بها العالم الرّأسمالي «السّائل».
ومن الأكيد أنّ باومان لو كان قد عاش إلى اليوم لكان قد نعت الحداثة السّائلة بأنّها «عصر الفيروس» أيضا كما سمّاها «عصر الأزمة».
لكنّ باومان الّذي عاصر كورونا فيروس سنة 2003، هو على الأرجح لم يره بما هو كذلك. ومن ثمّ نحن نقدّر أنّ «الحداثة السّائلة» لا ترى الوباء لأنّها مشغولة تماما بحالة «عدم اليقين» المعولَم للرأسماليّة النّيوليبراليّة، المتأتّي من مشكل غير وبائي ولا هو طارئ بل متأصّل في طبيعة الانتقال الدّاخليّ في ماهيّة الحداثة وقيمها العميقة من «الصّلبé إلى “السّائل”. يبدو معجم باومان غريبا عن الاستعارة الوبائيّة (على خلاف فوكو مثلا) بل هو منصرف إلى أمثلة سوسيولوجيّة تدور أساسا حول مفردات “السّوق” النّيوليبراليّة وعلاقتها بالسّلطة. يقول في كتابه “الحداثة السّائلة”(2000):” تُعزى ‘السّيولة’ الّتي تتّسم بها أزمتنا في الأصل إلى ‘تفكيك النّظم’، بمعنى فصل السّلطة (القدرة على فعل الأشياء) عن السّياسة (القدرة على تحديد الأشياء الّتي ينبغي فعلها)… فتتولّد حالة من اللاّيقين تجمع بين الإحساس بالجهل (استحالة معرفة ما سيحدث) والعجز (استحالة منع ما سيحدث) والإحساس بالخوف…ويمكننا أن نقارن العيش في الحداثة في مرحلة السّيولة بالسّير في حقل ألغام…وعلى هذا الكوكب المتعولم يصبح هذا الوضع كونيا… لكنّ زواج السّلطة والسّياسة من جديد، بعد طلاقهما من قبل، إنّما هو شرط ضروري بلا شكّ لما يمكن أن نسمّيه في هذه الأيّام ‘استعادة الرّوابط الصّلبة’.”(ترجمة حجاج أبو جبر). كلّ هذا المشهد يندرج عنده في نطاق استعمالات “الخوف السّائل” الّذي ينتاب الفرد السّائل في ظلّ العولمة المتوحّشة.
لكنّ وباء كورونا يشير إلى منطقة إشكاليّة من نوع آخر. إنّها تهمّ بالأساس « سياسة الحياة» على الكوكب وليس أزمات الرّأسماليّة. ما كان يشغل باومان هو السّائل المتحدّر، حسب تعبيره، من “رحلة التّسوّق الّتي هي بالأساس إبحار في الفضاء قبل أن تكون سفراً في الزّمن”. وهو يصفها بأنّها “رحلة في معبد الاستهلاك”. وفي خضمّ هذا المعبد الفردانيّ يتمّ، كما يقول، “تقيّؤ الأغيار ولفظهم بوصفهم غرباء وأجانب لا ينتمون إلى المكان…فيحظر عليهم الاتّصال الجسدي…والعزل المكاني والغيتو الحضري، والسّماح لأفراد بعينهم بدخول فضاءات معيّنة دون سواهم”، ويسمّي هذا النّوع من الأمكنة “الفضاءات الحضريّة العامّة غير الاجتماعيّة”، أو «اللاّمكان»، أو «الأماكن المحظورة الّتي تكمن وظيفتها في عدم دخولها”، وحتّى “الفراغ”… لكنّ كلّ هذه التّوصيفات للمكان “السّائل” هي غير مفيدة في استكشاف معنى المكان «المحجور».
إنّ المحجور ليس محظوراً، بل هو مفتوح نحو الدّاخل. إنّه يجذب النّزلاء إلى داخل أنفسهم حماية لهم من “خارج” متعتلّ، محتلّ من طرف وباء يبحث عنهم. وعلى عكس لعبة “النّحن” و”الغرباء” الهوويّة، الفردانيّة، حيث لا يزال ممكناً تنصيب حقول «الملكيّة” وحراستها في الفضاء العموميّ، فإنّ لعبة الوباء هي من نوع آخر: إنّ الفيروس يبحث عن الآخر كي يسكنه، وبهذا المعنى هو محتلّ وليس غريباً. من أجل ذلك يبدو “السّائل” استعارة خاصّة بمعجم أزمة الفردانيّة في ظلّ عولمة متوحّشة حيث تتحوّل الحياة اليوميّة إلى رحلة تسوّق “اللاّيقين”؛ لكنّ الوباء يضع كلّ سرديّة السّائل موضع مراجعة. هو ينقل بؤرة الاختبار من استعارات “الماء” إلى استعارات “الهواء”: من المادّة “السّائلة” إلى المادّة “الغازيّة”. لا يزال السّائل على صلة قويّة بالصّلب أو هو حسب باومان الشّكل الجديد من الصّلب الزّائل. لكنّ العدوى “الغازيّة” (الشّمّيّة واللّمسيّة) هي تحدث بلا ذاكرة صلبة ولا يمكن معاملتها بوصفها صلابة جديدة. إنّها كارثة. وليس أزمة.


الكاتب : حاورته: ريتا فرج

  

بتاريخ : 19/04/2021