سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.
هكذا نصل إلى النّقطة الّتي تهمّنا: إنّ عبارة “نحن أمام عدوّ لا مرئي” هي استعارة قلقة. إذ لا يمكن تصوّر نزاع سياسي يكون العدوّ فيه لا مرئيّاً. ومن ثمّ فإنّ الخطاب السّياسي الّذي يراهن على تنصيب الوباء بوصفه عدوّاً لا مرئيّاً، هو يضلّلنا. إنّ الوباء ليس عدوّاً سياسياً إلاّ مجازاً. وهو مجاز فلسفي لكنّه غير مفيد سياسياً. ذلك أنّ الدّولة الّتي تلجأ لهذا الخطاب تُعفي نفسها من وظيفتها “السّياسيّة”. وهي وظيفة تقوم حصراً على التّمييز بين العدوّ والصّديق. وعندئذ علينا أن نسأل: من هو العدوّ ومن هو الصّديق في معركة البشر الحاليين (وليس الدّول) ضدّ تفشي فيروس كورونا؟ إنّ الدّولة لا تحارب الوباء بل تدير المعركة معه. وهي معركة الأحياء وليس المواطنين.
إنّ الوباء قد جرّد الدّولة من سيادتها، عندما نقل الرّهان من حفظ الحالة الاستثنائيّة للسّلطة إلى حفظ الحياة. ومن ثمّ قد نجازف بالقول إنّ التّأويل البيو-سياسي (في التّقليد الّذي عمل فيه فوكو وأغمبن) لا يساعدنا هنا إلاّ لمرحلة محدودة فقط. يبدو أنّ “حفظ الحياة” أو “حفظ النّوع” (حسب تعبير القدماء) هو مشكل مختلف بوجه مّا عن “سياسة الحياة” الّتي اخترعتها الدّولة الحديثة وحصرتها في “حفظ الصّحة” لحاجات “بيو-سياسيّة” أو “حكوميّة”. ولأنّ الوباء ليس مرضاً فهو يتطلّب مساءلة مختلفة عن السّياسة “الباثولوجيّة” للمجتمع. إنّ مفردات من قبيل “عدم اليقين” و”الخوف” و”الفوضى”، تشير إلى إشكاليّة مختلفة عن تحليل فوكو للسّلطة حيث يقع التّركيز على كيفيّة تحوّل أشكال المعرفة أو الخطاب إلى تقنيات سلطة تتحوّل بدورها إلى تقنيات تذويت. إنّ الوباء ليس “محنة” (فتنة بالمعنى الدّينيّ، أي تحميل المؤمن ما لا يُطاق حتّى يكفر أو يرتدّ عن دينه) ولا هو “أزمة” (crisis بمعانيها الثّلاثة: “العلّة”، المرض بالمعنى الطّبيّ، و”القرار” بالمعنى القانونيّ، و”الدّينونة” بالمعنى الدّينيّ المسيحيّ)؛ بل هو “عدوى” لا مرئيّة هي أقرب إلى معجم إميل سيوران عن “التّحلّل” (décompositin) الّذي يصيب الأجسام الحيّة من الدّاخل لأنّه استعداد طبيعي فيها. نحن كائنات مجهّزة سلفا بمشاعر “الخوف” و”عدم اليقين” و”الفوضى” الّتي هي مختلفة عن “المرض” بالمعنى الطّبيّ، والّذي هو بذلك مفهوم ثقافي. لكنّ “إدارة” المعركة مع عدوّ لا مرئيّ تبقى دوماً مشكلاً سياسياً. ولذلك فإنّ مقياس الحكم على الدّولة لم يعد “دستوريّة” الخطاب الّذي تنتجه عن الوباء، بل نجاعة الخيارات الّتي تساعد الأحياء على البقاء. وفي معارك البقاء فإنّ الحيّ ليس مواطناً إلاّ عرضاً.
كيف تنظرون إلى عظة البابا فرنسيس خلال الاحتفاء بعيد الفصح وحيداً دون جمهور المؤمنين لأوّل مرّة في التّاريخ الفاتيكان، لا سيمّا دعوته للتّضامن الأوروبيّ وخفض ديون الدّول الفقيرة؟
_ إنّ مشهد البابا وحيداً، يعظ مؤمنين غائبين، يذكّرني رأساً (وكنت قد عرضت إلى ذلك في كتابي الأخير “الإيمان الحرّ”) بأحد أحاديث زرادشت نيتشه وهو يأتي على تجربة “البابا الأخير” أو البابا الّذي وجد نفسه فجأة “خارج الخدمة” فإذا هو يقول:
”كنت أبحث عن الإنسان التّقيّ الأخير، عن قديس وناسك لم يسمع بعد في أدغاله بذلك الأمر الّذي يعرفه اليوم كلّ العالم.
وماذا يعرف اليوم كلُّ العالم؟ سأله زرادشت. أيكون ذلك النّبأ بأنّ الإله القديم لم يعد حيّاً، ذاك الّذي كان العالم كلّه يؤمن به يوما مّا؟
هو ما قلت، أجابه العجوز متحسّراً. وقد خدمت ذلك الإله القديم حتّى ساعته الأخيرة.
والآن ها أنا خارج الخدمة (ausser Dienst)، بلا سيّد، ومع ذلك لست حرّاً، ولم تعد لديّ ولو ساعة أخرى من المرح، إلاّ في الذّكريات.”
إنّ “عظة” البابا فرنسيس دون جمهور المؤمنين تلقي ضوءً جديداً على حديث زرادشت الّذي يسخر من بابا ما زال لم يبلغه خبر “موت الإله“. في حقيقة الأمر إنّ الصّلاة بلا مؤمنين غير ممكنة. ولذلك لا يبدو أنّ البابا قد ألقى عظة بلا جمهور: إنّه يعرف أنّ “الحاضرين” أمام من يصلّي ليسوا “جمهورًا” بالمعنى الفنّيّ، بل هم “حضرة” أو شكل من الحضور لا يمكن حصره في الوجود الماديّ للأجسام. وبهذا المعنى كان البابا دوما يصلّي وحده حتّى وإن كان يعظ المؤمنين. لا يحتاج البابا إلى حضور المؤمنين حتّى يعظهم. إنّ العظة نفسها نداء يقع خارج منطقة التّخاطب اليوميّ بين المتكلّمين. وهو نداء موجّه بطبيعته إلى الغائب. الغائب هو ما يجعل المؤمن ممكنًا. كلّ إيمان هو اتّصال بكائن غائب. ومن ثمّ هو يعامل “الغياب” المادي بوصفه “غيبا”. إنّ الغياب هو شكل العلاقة بالزّمان الّذي يشتقّ منه الإيمان إمكانيته العميقة في أفق البشر. ولذلك فإنّ رهان العظة الّتي ألقاها البابا ليس كسر الغياب بل إلغاؤه؛ وذلك بمواصلة الخطاب نحو المؤمنين دون أي اعتبار لغيابهم.