وضعية اليهود المغاربة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر -11-

«يهود منطقة سوس ، 1960-1860، دراسة في تاريخ المغرب الاجتماعي»

لصاحبه عبد الله لغمائد

 

تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..

محاولة لتسليط الضوء على التاريخ الاجتماعي للأقليات

صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر أواخر أبريل2016 ، كتاب جديد بعنوان «يهود منطقة سوس، 1860-1960، دراسة في تاريخ المغرب الاجتماعي»، منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر،2016. وهو أطروحة جامعية تقدم بها الباحث عبد لله لغمائد لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ المعاصر بكلية آداب الرباط، إشراف الأستاذ محمد كنبيب سنة 2002، ويشغل الباحث اليوم عضو اللجنة الدائمة للأمم المتحدة بنيويورك. يقع الكتاب في حوالي أربعمائة وثمانية وخمسين صفحة من الحجم المتوسط. وهو إضافة نوعية إلى مجموع البحوث المغربية المنجزة حول تاريخ اليهود،ونخص منها بالذكر، «يهود الأندلس والمغرب» لحاييم الزعفراني»، و«يهود المغرب» لمحمد كنبيب، و«اليهود المغاربة وحديث الذاكرة» لعمر بوم الذي نال مؤخرا جائزة المغرب للكتاب في نسخته العربية التي نقلها عن الانجليزية الأستاذ خالد بن الصغير.
ولايسمح المقام بجرد موضوعاتي لكل هذه الأعمال خاصة منها المونوغرافيات التي جاءت على شكل تقارير وصفية لحالة يهود سوس وكتب الرحالة والباحثين الاجانب، وفي مقدمتها مؤلفات بول باسكون التي قدمت مادة اليهود باعتبارها موضوعا ثانويا، أو روبر مونطان الذي وظف هذه في كتابه «البربر والمخزن» بغرض تهيئة المشروع الإستعماري أو ميشيل أبيطبول الذي تناول الجوانب الاقتصادية لحياة اليهود في مؤلفه «تجار السلطان»، غير أن أبرز هذه المؤلفات تلك التي أنجزها الأنتربولوجي دانييل شروتر «تجار الصويرة»، وكتاب «يهودي السلطان»، اللذين نقلهما إلى العربية خالد بن الصغير.
وبعد قراءتنا الكتاب وتحليل مضامين فصوله الثمانية، وبالاستناد إلى نوع المنهج والمقاربة الموظفين، وباستحضار المادة المصدرية المتنوعة، التي اعتٌمد بعضها لأول مرة خاصة في شقها الأجنبي والمحلي، وبالاستناد إلى طبيعة النتائج التي توصل إليها الباحث وربطها بطبيعة الإشكالية المسطرة ونتائج الدراسات السابقة، يمكننا القول إن هذه الدراسة تمثل إضافة نوعية إلى كل ما كتب حول يهود المغرب؛ فهي بحث أكاديمي جامع لموضوع يهود سوس الذي جاء متناثرا في تقارير استخباراتية حادت عن الموضوعية، خاصة وأن أصحابها كانوا بعيدين عن الحقل التاريخي، ومقربين من الدوائر العسكرية. ولعل هذه التقارير حررت لوصف وضعية اليهود وليس لتشخيصها مما لا يفيهم حقهم من الكتابة والتدوين التاريخيين كعناصر حاضرة وغير مهمشة في الكتابة التاريخية.
لقد أنتجت هذه الدراسة، على مستوى الإنتاج التاريخي، معرفة تاريخية معمقة بتسليطها الضوء على البنية الاجتماعية والاقتصادية ليهود سوس وفق منهجية البحث المونوغرافي، إذ ركز صاحبها على تحليل الأنساق الاجتماعية لجماعات اليهود، التي تطورت بتطور هذه الأخيرة دون أن تتجاوز نمط حياتها الريفي؛ إنها دراسة تؤرخ ليهود البادية أكثر من يهود الحاضرة. فالباحث قام بتفسير التحولات الاجتماعية لليهود بالتقلبات الاقتصادية التي كان يوازيها التطور السياسي ليهود العالم.
ولصياغة إشكالية متناسقة للبحث فإن عبد لله لغمائد انطلق من مسلمة مفادها أن جماعات اليهود بسوس اتخذوا دورا سياسيا ثانويا في المشاريع التي استهدفت كافة يهود المغرب، وهذه نقطة تتقاطع مع مع دراسة محمد كنبيب «يهود المغرب»، ودانييل شروتر «تجارالصويرة ويهودي السلطان».
وتختلف نسبيا عن دراسة عمر بوم «اليهود المغاربة وحديث الذاكرة» التي اعتمدت فيها المقاربة الثقافية الأنتربولوجية.
إن المادة المصدرية التي اعتمدها عبد لله لغمائد حتمت عليه الغوص في غياهبها للبحث في خصوصيات حياة اليهود السوسيين لإماطة اللثام عن أسباب اهتمام الوكالة اليهودية عقب الحرب العالمية الثانية بملاحات اليهود المغاربة.
وهو الدافع الذي اعتبره الباحث مبررا لخوض غمار تجربة التقصي الميداني لخصوصيات يهود الملاحات بسوس الذين ظلوا يعيشون في وئام مع جيرانهم المسلمين.تعلن الدراسة صراحة اختلاف الانماط الثقافية والاجتماعية ليهود سوس وموقفهم من هول الصدمة، التي تزامنت مع غزو الفرنسيين لسوس بداية الثلاثينيات، مقارنة مع إخوانهم في مدن وبوادي الشمال، وهذه نقطة سبق وأن أشار إليها الاستاذ محمد كنبيب في مقدمة النسخة العربية من دراسته.
وللوقوف عن حيثيات هذه المضامين فقد قسم دراسته إلى قسمين؛ يتناول الأول تشخيص وضعية اليهود بسوس قبل القرن التاسع عشر الميلادي، نتتبع في فصوله الأربعة، المتجانسة، أخبارا عن الأصول القديمة لليهود مستقاة من مؤلفات مؤرخين ورحالة أجانب، كان لهم السبق في عملية التدوين حول اليهود؛ إما من خلال الوثائق أو من خلال استنطاق الذاكرة اليهودية بالمجال الجغرافي المدروس؛ خاصة الذين كان اهتمامهم يصب حول واقع اليهود في شمال إفريقيا.
ويقتفي الباحث أثر جذور اليهود بسوس من خلال رصد علاقتهم بالفينيقيين اعتمادا على ما أنجزه هؤلاء، فقد تم الإجماع على ترجيح كفة الوجود اليهودي بسوس إلى أصلين؛ الأول يذهب أصحابه إلى حد القول إن التواجد اليهودي بسوس مرده للهجرة الهيلينية، وحجتهم في ذلك النقوش الصخرية التي ساعدت الأركيولوجيين على تـأكيد هذا الزعم. أما الأصل الثاني فيعتمد أصحابه على فكر «الزيلوت» الذي يرجح كفة استقرار اليهود في ليبيا والجنوب التونسي.
يقلل هذا الطرح الأخير من فرضية استقرار اليهود في مدينة قرطاجة أشهر المدن الفينيقية في تونس. إن استقرار اليهود في الجنوب المغربي، وبالخصوص في منطقة إفران (الأطلس الصغير) يستدعي، حسب الباحث، إعادة قراءة حدث «السبي البابلي» الذي كان بطله الملك «نبوخذ نصر» قد استأصل جذور مملكة يهودا، ودمر أورشليم وهيكل سليمان سنة (578 ق.م)؛ ما يعني أن التواجد اليهودي بإفران مرتبط أساسا بالهجرة التي حدثت نتيجة اضطهاد اليهود في فلسطين على يد هذا الملك.
وحسب الباحث فيهود العالم يجمعون اليوم على أن إفران أو «أوفران» (كما ينطقها اليهود)، ارتبطت، كما هو راسخ في متخيلهم الشعبي، بإيوائها لأقدم المجموعات اليهودية، ذلك أن الأبحاث الأركيولوجية تثبت حسب هذا الرأي أن أقدم قبر وجد في المجال يعود للحزان «يوسف بن ميمون» الذي يرجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد، إلا أن هذا الطرح لا يجد اليوم ما يعززه لأن الفكرة سبق وأن دحضها الاركيولوجي «فانسان مونتاني» في بحث قام به في إفران عام 1948 (يهود منطقة سوس، الهامش22، ص، 32) وهي الحلقة التي ماتزال مفقودة في دراسة عبد لله لغمائد نظرا لقصور المصدر الاركيولوجي فيها.
كما عمل الباحث على توطين يهود سوس في هذا المجال من خلال جرد البنية الديموغرافية وقراءتها وتتبع عدد الملاحات التي استقروا بها، ومارسوا فيها أنشطتهم التجارية. بيد أن مصدره في المعلومة، هذا الصدد لم يتجاوز كتابات الأجانب خاصة مؤلف «التعرف على المغرب» لصاحبه شارل دو فوكو، (يهود منطقة سوس…ص85.95) الذي لا يمكن الوثوق إليه باعتبار عدائه للسامية كما سبق أن أشار عمر بوم في كتابه «اليهود وحديث الذاكرة».


الكاتب : الدكتور ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 26/04/2021