سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.
لا تعني بتلر أنّ الفيروس “بريء” أو هو ينتمي إلى براءة تتجاوزنا؛ بل أنّ الفيروس يصيب جميع البشر وذلك يعني جميع الأجناس. يتعلّق الأمر إذن بنوع من المساواة المقلوبة: المساواة أمام الوباء. هو لا يصيب هذا العرق أو ذاك بل كلّ الأعراق، وذلك أنّ العدوى تتسرّب إلى الجسم البشري بما هو مساحة عضويّة، وليس إلى صورته الثّقافيّة كما يتمثّلها هذا الشّعب أو ذاك. إنّ الفيروس يُسقط الحدود الثّقافيّة بين الأجناس كما يُسقط الحدود بين الدّول. وحسب بتلر فإنّ الفيروس حين يعبر الحدود هو يكسّر فكرة “الإقليم القومي”. ولم تجد الدّولة ما تنصح به المواطنين سوى الاحتماء بالمربّع الأخير: “العائلة” أو “المسكن الفردي”. وهنا تعترض بتلر متسائلة: “ولكن ليس كلّ النّاس يمتلكون مسكنا أو ‘عائلة’ وإنّ عددا متزايدا من السّكّان في الولايات المتحدة هو بلا منزل أو عابر فقط”..
إنّ الدّولة الّتي تأمر السّكّان بالاحتماء بالعائلة تقوم على نحو غير مباشر بإعادتهم إلى جذورهم الدّمويّة، وتقنعهم في المرّة نفسها بفشل الفضاء العموميّ في حمايتهم. لكنّ تنشيط براديغم العائلة بوصفه مساحة الحماية المناسبة من الوباء من شأنه أن يعيد إلى الخدمة مجموعة مماثلة من المقولات الّتي تمّ تعطيلها سابقاً، نعني مفاهيم “الجماعة” و”العرق” و”الانتماء” القبلي، إلخ. ويوحي بضرب من الاستقالة الأخلاقيّة للدّولة فيما يخصّ مسائل الحياة والموت.
وإنّه في هذا السّياق الّذي يرتدّ فيه النّاس من نطاق الدّولة إلى حضن العائلة إنّما تترعرع الهواجس “الهوويّة” سواء لدى الفرد (في شكل ذاتيّة حيوانيّة أنانيّة وانعزاليّة) أو لدى المجموعة (الّتي تستعيد شكل “الجماعة” الرّوحيّة مهما كان محتواها المعياري عرقيّا أو دينيّا أو ثقافيا أو جغرافيّا…). كلّ عودة للنّزعات العنصريّة أو المتطرّفة هي علامة على أنّ الدّولة الحديثة قد فشلت، وأعادت الأمانة الأخلاقيّة على الحياة والموت إلى دائرة “الهويّة” (حيث يمكن أن تنمو بسرعة هواجس الطّائفة والعرق والجهة،..).
قال هابرماس ذات مرّة بصدد حديثه عن داعش: «يجب على المجتمع المدني أن يحترس من أن يضحّي على مذبح الأمن بكلّ الفضائل الدّيمقراطيّة لمجتمع مفتوح من قبيل حريّة الفرد والتّسامح إزاء تنوّع أشكال الحياة والاستعداد الجيّد للأخذ بمنظور الغير».
بين داعش والوباء هناك بالطّبع صلة متوارية: كلّ منهما يساعد على الاستثمار في البؤس الهوويّ.
ولذلك علّق جورجيو أغمبن على استعادة الدّولة لنزعتها الأمنيّة في فرض “الحجر” بوصفه جزءًا من وظيفتها “البيو-سياسيّة”، قائلاً أنّه يشبه تعويض “الإرهاب” بصناعة “الفيروسات”.
لا يبدو أنّ النّزعات الفاشيّة هي أكثر من استثمار وبائي في الهويّة. نعني: استغلال أمر الدّولة المستقيلة للسكّان بالانزواء في “المنزل العائليّ” على أنّه توجّه نحو الجذور العرقيّة للنّاس، ولكن مع إضافة مكوّن جماعويّ متطرّف هو كراهيّة الأجنبيّ بوصفه كما كان دوما في كلّ السّرديات الهوويّة، ناقل الخطيئة بامتياز.
ومع ذلك يمكن أن يكون الوباء فرصة كلبيّة للتّهكّم على كلّ نزعة عنصريّة: إنّه يفرض على جميع الأجناس أن يتضامنوا وأن يتعاونوا بوصفهم “نوعًا” واحدا من الأحياء واقعًا تحت نوع واحد من التّهديد. قال سلافوي جيجيك :” يبدو لي أنّ الوجه الآخر للعولمة هو بناء جدران لا مرئيّة جديدة“. ولكن ماذا لو كان الوباء علامة على مهمّة أخرى: على ضرورة بناء “جسور” لا مرئيّة جديدة بين البشر. هذا النّوع الجديد من “اللاّمرئيّ” لن يكون موضوعه أخرويّا أو غيبيّا على الرّغم من أنّه يتعلّق بالخلاص: إنّ موضوعه هو “التّضامن” بين أحياء من فصيلة واحدة منعتهم الجدران الثّقافيّة غير المرئيّة الّتي بنوها حول أنفسهم بشكل هووي من أن يروا بعضهم البعض، حتّى وهم تحت تهديد الوباء. قالت جوديت بتلر:”نحن لا نحتاج لأن يحبّ بعضنا البعض حتّى ننخرط في عمليّة تضامن حقيقي”. ربّما كان وقت المحبّة بين النّاس قد فات بسبب تصوّر هووي معيّن عن أنفسهم؛ لكنّ لحظة التّضامن الّذي ينقذهم جميعاً من الوباء الّذي يهدّد شكل المشترك الوراثي الجامع بينهم هي بالتّأكيد لم تفت بعد.