ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
عام من العزلة الصحية التي فرضها انتشار وباء كوفيد 19، عام من الاستثناء في السلوك والعلاقات والأحاسيس المضطربة والفقدان المضاعف… لقد وجدت بسرعة حبل النجاة بمجرد إعلان الإغلاق الشامل ببلادنا قبل عام، ولم يكن ذلك شيئا آخر سوى التشبث بالإبداع والكتابة والقراءة… كنت قد أصدرت قبل أسابيع مجموعتي «طعنات في صدر الهواء»، وصادف الإغلاق ذلك، فلم أتمكن من التجول بها في حفلات توقيع مثل المجموعة التي سبقتها «رماد اليقين».. وككل إنسان عاش هذه المرحلة، وجدت نفسي محاصرا رفقة أسرتي بين جدران البيت، تنتابني أحاسيس كثيرة ومتناقضة وتثيرني أسئلة ربما لم يسبق للبشرية أن توقعتها قبل هذه الفترة الوبائية بأسابيع قليلة. لم يكن أمامي غير النوافذ التي تربطني بالعالم الخارجي.. لحسن الحظ أن النوافذ كانت متوفرة بشكل غير مسبوق وأصبح دورها كبيرا في التواصل والحياة، لذلك كانت محور نص شعري في الأيام الأولى للحجر الصحي بعنوان «وحدها النوافذ» حاولت من خلالها تقديم توصيف شعري لزمكان وإنسان كورونا. لكن لأنه من المستحيل الاستسلام للأمر الواقع والركون للجمود والخوف من المجهول، فقد اقترحت – حينما كنت عضوا في المكتب المسير لشبكة المقاهي الثقافية – بعد أن تعذر تنظيم توقيعات واقعية لمجموعتي الجديدة، تقديم 300 نسخة منها يحول الراغبون في اقتناء نسخة منها أو أكثر، ثمنها إلى صندوق التضامن الذي أحدث لمواجهة الجائحة، وإيفاد المنظمين بوصولات التحويل على أن يتوصلوا بنسخهم موقعة. وكانت العملية ناجحة في إطار أنشطة ثقافية وفنية افتراضية للشبكة من جهة ولفرقة مسرح سيدي يحيى الغرب من جهة ثانية ضمن انخراطهما في دعم المجهود التحسيسي والتحصين النفسي والاجتماعي ضد الجائحة..
إذا كان انتشار فيروس كورونا غير بشكل غير مسبوق الكثير من القناعات والسلوكات الإنسانية، فإنه من السابق لأوانه أن نعرف حدود تلك التغييرات التي سيحدثها على حياة البشرية في مختلف تمظهراتها وسياقاتها.
لقد داهمتني هذه الجائحة منذ وصولها إلى بلادنا بنهر من الأسئلة يتدفق كلما تضاعفت تداعيات القطع مع سلوكات وعادات وممارسات كانت إلى الأمس القريب جوهر وجودنا وحريتنا، بسبب الطوارئ الصحية التي جعلتنا ننكمش في مساحات ضيقة إلى أبعد الحدود بشكل لم يسبق له مثيل.
كنت أحاول وأنا أتمرن على تعويد نفسي وأسرتي على هذا الواقع الجديد في حالة من الصدمة، أن أحقق توازنا بين التدفق الرهيب لنهر الأسئلة الكسيحة التي تداهمني، وبين واقع جديد بنزوع دراماتيكي حاد لم نر له مثيلا إلا في أفلام الخيال العلمي.
كان علي أن أتأقلم مع برنامج يومي مختلف تماما، فبينما كنت أستيقظ في الخامسة صباحا منذ أقمت بمدينة القنيطرة قبل ست سنوات، لأكون بمكتبي بالرباط في السادسة والنصف قبل أزيد من ساعتين عن الموعد الرسمي لبدء عمل الإدارات، وأغرق في تصفح الجرائد الورقية والمواقع الإلكترونية وإعداد الحصيلة الصحفية اليومية، ها أنا أجد صعوبة بالغة في تغيير ساعتي البيولوجية، وقد أصبحت مطالبا بالقيام بعملي دون أن أغادر جدران بيتي، ألْهثُ وراء الجرائد على الشبكة العنكبوتية بعدما توقفت عن الصدور ورقيا، فانقلب استيقاظي باكرا إلى سهر ليلي حيث أنهي عملي في حدود الثالثة صباحا قبل أن أنام.
لم يكن أمامي من خيار غير النوافذ كي أتنفس قليلا وأتحرر من الاختناق الذي يحس به كل إنسان تعود على مغادرة البيت كل صباح منذ طفولته المبكرة… وطبعا كان اللجوء للقراءة والكتابة هو السلوك الوحيد الذي لم تفرض علينا الجائحة القطع معه لحسن الحظ، بل أصبح الإدمان عليه من أهم الأسلحة الجديرة بمقاومة الوباء وتداعياته المادية والرمزية.
هكذا حاولت أن أستنطق دهشة الذات والأشياء والعوالم في مواجهة كورونا فكتبت نص «وحدها النوافذ»، كما كتبت مقالا بعنوان «كورونا ودور الثقافة والفن في طرح الأسئلة الصعبة» حاولت من خلاله أن أطرح العديد من الأسئلة التي أفرزتها الجائحة من منطلق أن الطمأنينة والوثوقية التي استبدت وهيمنت على العديد من الأيديولوجيات والمنظومات الفكرية والممارسات السياسية والسلوكات الاجتماعية ليس بمقدورها أن تستمر وقد زعزع أسسها وخلخل منطوقها ومسكوتها هذا الفيروس. وأنه إذا كان من الطبيعي جدا أن تنخرط الثقافة والفن في معركة الحد من انتشار الوباء والانتصار عليه في نهاية المطاف، فإن دورها الأساسي والمركزي هو امتحان هذه الأسئلة والتدقيق في الكثير من المفاهيم والمصطلحات والبحث عن إجابات ممكنة. فمن غير المستبعد أننا بصدد الانتقال من عصر إلى عصر مختلف.
ومن المؤكد أن تداعيات هذه الجائحة قد وفرت فرصة لا تعوض للقراءة أيضا، لذلك، وبسبب كورونا نفسها، عدت لأقرأ عددا من الكتب: «المقدمة» لابن خلدون، «في عملية الفكر الخلدوني» لمهدي عامل، «نظام التفاهة» لألان دونو، «التاريخ الأسود للرأسمالية» لمجموعة من المؤلفين…
ولحسن الحظ أن شبكة الأنترنيت ووسائط التواصل الاجتماعي فضلا عن القنوات التلفزية والإذاعية والجرائد الورقية والالكترونية ووكالات الأنباء، قد وفرت لنا خلال سنة كوفيد 19، نوافذ جديدة ومغرية للتواصل مع العالم الخارجي ومحاولة الاستمرار في الفعل الثقافي عن بعد. وقد أتاح التحكم النسبي في الوباء وتخفيف قيود الحجر الصحي، أن نعوض في جمعية (ARDI) تنظيم الدورة 13 من مهرجان بني عمار زرهون FestiBaz بجزء من أنشطته التي تتلاءم مع ظروف الجائحة وهي تظاهرة «ألوان بني عمار» التي تضمنت رسم جداريات جميلة بمواقع مختلفة من القصبة بمساهمة فنانين أصدقاء المهرجان وورش لصيانة محيط موقع سيدي لحسن الأثري وعرض شريط وثائقي فرنسي حول الحياة الاجتماعية بقصبة بني عمار في أواسط ستينات القرن الماضي، وكانت التظاهرة ناجحة ومبهجة ما بين 6 و9 غشت الماضي، تخففنا خلالها من دكتاتورية كورونا وأجوائها الخانقة، وانبعث الفينيق مرة أخرى من نوافذ الزمن الكوروني.