«فلسفة المعرفة عند كانط: نظرية الزمان والمكان»

صدر للباحث المغربي عبد اللطيف فتح الدين (أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني) مصنف جديد بعنوان: “فلسفة المعرفة عند كانط، نظرية الزمان والمكان” (منشورات السليكي أخوين 2021). ومداره فكرة رئيسة مفادها أنّ “الفكر التنويري الأوربي” على اختلاف وتباين أشكاله واتجاهاته يتأسس على نظيمة (=شميلة) تصوُّرية موحدة قوامها “التفكير” في “الإنسان” بتوسل “العقل” بما هو أداة تتهدّف تقويض ضروب الخرافات والأوهام وأشكال التسلط والاستبداد. وذلك من خلال: “التنصيص على الاستعمال العلني للعقل، بما هو شرط للتحرر والانعتاق، وبما هو وسيلة لا غناء عنها لضمان حرية الإنسان وحفظ قدرته على الاختيار وتقرير مصيره وتخليه عن كل صنوف القهر والطغيان الديني أو الاستبداد السياسي”.
غني عن البيان القول إن “كانط” Kant(1724-1804) أحد العلامات الفارقة التي شهدها عصر التنوير. ويتضح ذلك من خلال تهسجه بالإجابة عن السؤال: ما التنوير؟ يقول كانط: “إن التنوير هو خروج الإنسان من حال الوصاية التي هو نفسه مسؤولا عنها. والوصاية بهذا المعنى حال من القصور يعجز فيها المرء على إعمال عقله من غير انقياد للغير، والإنسان نفسه يكون مسؤولاً عن هذا القصور، لأن مرده ليس إلى نقص من الهمة والعزيمة، وإلى الافتقار إلى الشجاعة في استخدام العقل دون الاعتماد على الغير: يا هذا تجرأ على استخدام عقلك sapere aude!! ذاك هو شعار الأنوار”

لا تنوير بدون تحرير

من النافل القول إن أسّ “التنوير” “التحرير” (=الحرية)، “فلا تنوير بدون تحرير”. ومن أجل ذلك، وجب حمل الناس على “استعمال عقولهم” على نحو “عمومي” “علني” “حر” في سائر المجالات وفي استقلال عن كل ضروب الإكراه والتقييد. يقول “كانط”: ” إن بت روح الأنوار يقتضي شرطاً وحيداً هو الحرية، وبالذات الحريّة المسالمة التي لا تترتب عنها أي مضرة، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل المجالات، بيد أني أسمع الآن نداءً يتردد صداه في كل الأرجاء: لا تفكروا، بل نفذوا ! و صاحب المالية يقول: لا تفكروا بل ادفعوا ! ورجل الدين يقول: لا تفكروا بل اعتقدوا ! (وليس ثمة في العالم سوى سيد واحد يقول: فكروا بقدر ما تشاؤون، وفي ما تشاؤون، لكن أطيعوا !”. ليس من حق السلطة الدينية أن تلزم “العقل” بطاعة وصاياها وتعاليمها، لأن ذلك يتنافى مع أولياته ومقولاته. ومن أجل ذلك، “يتوجب على الاستعمال العمومي للعقل أن يكون حرًّا، وهذا الضرب من الاستعمال هو وحده القادر على اشاعة الأنوار بين الناس”.
من الواضح أن قيمة “العقل” حسب “كانط” لا تنحصر على المستوى النظري (=بناء المفاهيم والتصورات) بل تشمل المجال العملي (=الاجتماع والسياسة) أيضا، يقول الأستاذ فتح الدين: “ليس العقل عند فيلسوف كونجسبرغ قوة مشرعة في المجال النظري فحسب، بل هو قوة تنظيمية تستقيم بها أحوال المجتمع والدولة”. على أنَّ “العقل” بما هو طاقة أو دينامية ترفض الانصياع للقهر الاجتماعي والسياسي رفضها الانصياع للاستبداد الديني، وذلك نتيجة رُنُوّها لحياة اجتماعية وسياسية قوامها العدل ورهانها صون كرامة الشخص بما هو غاية لا وسيلة: “إن دولة العقل هي الدولة التي يتوقف فيها الإنسان عن أن يكون شيئا أو أداة يجري استعمالها وفق أهواء الآخرين، بل يغدو غاية في ذاته ويكون موضعاً للتقدير والاحترام، بوصفه محتازاً لجوهرة باطنيّة لا تقدّر بثمن هي الكرامة”. هكذا، يراهن “العقل” على “تحرير الإنسان” من حالة الوصاية والقهر والاستبداد، بتغيير أوضاعه إلى ما يحفظ كرامته وينتج سعادته.

نظرية الزمان و المكان

لقد ركز الأستاذ فتح الدين في مصنفه الجديد على إبراز ملامح “الوجه النقدي” الذي اعتنى كانط بممارسته لبيان “شروط إمكان المعرفة”، وللكشف عن قيمة وحدود “العقل الإنساني”، وذلك من خلال تسليط الضوء على أحد أهم أركان فلسفة المعرفة، ونقصد: نظرية “الزمان” و”المكان”.
ثمة مقتضيات سابقة عن كل ضروب التجربة، دأب “كانط” على نعتها ب”الشُّروط القبليّة للمعرفة”، وهي في الآن نفسه شرط قيام التجربة ومنشأها. ومن بين المقتضيات تلك نذكر: صورتا “الزمان” و”المكان” و”مقولات الفهم”، إنها مقتضيات “لا تستقى بواسطة الخبرة الحسية ومن التجربة، وإن كانت تصدق على التجربة وتنطبق على حدوسها ومعطياتها”.
يدرج كانط صورتي “الزمان” و”المكان” ضمن دائرة “الشروط القبلية للمعرفة”، ومن بين أهم سمات المعرفة تلك طابعها الكوني العمومي. وذلك بالنظر إلى أولياتها العامة المشتركة لدى جميع الناس. ومن ثمن، لم تعد “المعرفة الحقة” شيئا جاهزاً على غرار الأفكار الفطرية والمعاني الغريزية عند “ديكارت”، بل صارت حاصل عملية بناء وتشييد تنتظم بمقتضاه الكثرة الحسية وفقا لمقولات “الفهم” و”العقل”.
صحيح أنّ “كانط” قد جعل “العقل” أسَّ “المعرفة” ومنشأها الرئيس، إلا أنّ ذلك لا يعني حسبه أن ((العقل)) قوة لا محدودة لا متناهية كما هو الحال عند ديكارت، بل إن الأمر بعين الضد، إذ ” أضحى العقل الإنساني في وجهه الاستدلالي البرهاني ! أي العقل النظري الذي أدار عليه الرجل كتابه: نقد العقل الخالص، محدود القدرة ! إذ في وسعه أن يدرك العالم المحسوس ومعرفة الظواهر التي تتبدَّى لنا في صورتي الزمان والمكان، لكن لا يمكنه إدراك ما وراء الظواهر، وليس في طوقه اكتناه المطلق”.
غني عن البيان القول إنّ الهاجس الأعظم التي تتهجس به تآليف كانط قاطبة هو: النقد. فما الذي يعنيه “كانط” بالنقد؟
يقول: “إنني لا أقصد هنا بالنقد نقداً للكتب والأنساق، بل نقداً لسلطة العقل بوجه عام، في علاقته بكل المعارف التي بإمكانها الاستقلال عن كل تجربة ! وبالتالي البت في مسألة إمكان أو عدم إمكان قيام ميتافيزيقا بوجه عام، وتحديد مصدرها وحدودها، وكل ذلك تبعاً لمبادئ”. غاية النقد إذن، “العقل” نفسه، وذلك قصد بيان حدوده وحصر مدار فعاليته.
ومن ثم، يراهن كانط على “الإستطيقا الترنسندنتالية”، بما هي مبحث معرفي يعنى بالحساسية، ونقصد الإدراك الحسي: ” إني أطلق مصطلح الإستطيقا المتعالية على العلم الذي يعنى بجميع المبادئ القبلية المقوّمة للحساسية، ولا بد من وجود هذا العلم الذي يكون الجزء الأول من النظرية الترنسندنتالية للعناصر، وذلك بإزاء العلم الذي يحتوي مبادئ الفكر الخالص”. هكذا، تتهجس “نظرية الاستطيقا المتعالية” بالنظر في “العناصر القبلية” التي منها تنبجس “التجربة”، وتشرط كل “تجربة”. ومن أجل ذلك، ارتأى كانط أن يسلط الضوء على الجانب الحسي من الذات “المتعالية” عوض الاكتفاء بالجانب ((القبلي)) “اللاحسي”، خصوصا ضمن مسألة صورتي “الزمان” و”المكان”.
ينظر “كانط” إلى “الزمان” و”المكان”بوصفهما صورتين “حدسيتين” خالصتين، فبالإضافة إلى ما تمدنا به الحساسية LA sensibilité من حدوس أمبيريقية وانطباعات حسية صادرة عن التجربة، فهي تمدنا أيضا بعنصرين “نحدسهما حدسا” و”ندركهما إدراكاً” (=الزمان والمكان). إذ يتعلق الأمر بعنصرين ينبجسان عن “المعرفة القبلية” لا عن “الخبرة الحسية”: “إنَّ كل ما هو معطى لنا كموضوع ينبغي أن يكون معطى لنا في الحدس، لكن الحدس لا يمكن أن يكون حاصلاً إلا في الحواس، والذهن ليست وظيفته الحدس، إنما وظيفته التأمل فقط”.
بيد أنّ الأصل في “الحدسي” أن يكون “حسيًّا” لا (“عقليا)” -تقويض التصور الديكارتي الذي اختزل الحدس في العقل- دون أن يعني ذلك أنه لا يجوز الحديث عن “حدوس قبلية))(=عقلية) غير مستمدة من “التجربة”. بل إن الأمر بعين الضد، إذ تميّز فلسفة “كانط” بين “الحدس الحسي” و”الحدس القبلي”، إذ يتركز الأول بما هو أس “قوة الحساسية” في صورتي “الزمان” و”المكان”، يقول كانط: “الزمان والمكان هما الأساس القبلي الذي تقوم عليه الحدوس الأخرى، وبذلك لا يمكن أبدا فصلهما عنه”.
يعد كل من المكان والزمان لدى “كانط” “شرطين قبليين” لكل “حدس حسي” أو “انطباع امبريقي)” -تقويض نظرية نيوتن ولايبنتز في “الزمان” و”المكان”- على أنهما “صورتان قبليّتان” عن طريقهما تتقوّم ملكة “الادراك الحسي” (=الحساسية)، إذ ليس في مكن هذا الأخير، الاستغناء عنهما: “ما من إدراك حسي إلاّ والشأن فيه أن يدرك الاشياء وفقاً لعلاقات التجاور والتباعد المكانيّة، ولعلاقات التعاقب والتتالي الزمانية”.
هكذا، يصير كل من “الزمان” و”المكان” نواة كل حدس حسي: “ليس في طوقنا نحن البشر أن ندرك الاشياء الحسية إلا على وجه منتظم ومتناسق، وتنسيق الأشياء الحسية وتنظيمها لا يكون إلا بتوسط صورتين قبليتين زودت بهما الحساسية البشرية هما صورتا الزمان والمكان”. ليست التجربة إذن، شرط انبجاس صورتي “الزمان” و”المكان” بل الأمر بعين الضد، ونقصد أنهما “شرط تحقق وإمكان كل تجربة”.
عبد اللطيف فتح الدين، فلسفة المعرفة عند كانط، نظرية المكان والزمان، منشورات السليكي أخوين، طنجة، المغرب2021 ، ص10 – 11 .
المرجع نفسه، ص11.
المرجع نفسه، ص13.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه، ص22 .
المرجع نفسه.
المرجع نفسه، ص25 .
المرجع نفسه، ص26 .
المرجع نفسه، ص30 .
المرجع نفسه، ص62 .
المرجع نفسه، ص68 .
المرجع نفسه، ص69 .
المرجع نفسه، ص76 .
المرجع نفسه، ص79 .
المرجع نفسه، ص82 .
(*) أستاذ/باحث


الكاتب : المهدي مستقيم

  

بتاريخ : 30/04/2021