أؤكد توصلي برسالتك، في العاشر من فبراير 1998، وهي الرسالة التي بعثتها لي من Maison Suger، تألمت تألما وانا اقرأ تقديمك لهذه «الضاحية» من باريس، حاضرت(ي)، ومدينت(ي)، وقد باتت مخبأ لشقائي: المشاعر، والآلام، تصطبغ بها الأمكنة كثيرا إذ أن مَادلين Madeleine بروست، هي على الأرجح، من بين أعظم الإبداعات الأدبية. لم يكن منحصرا في التكرار بل في زخم قوة الكتابة. إنه مبدع عبقري. نحن نشقى في الأمكنة، التي أدركنا فيها سياجات معاناتنا.
واحسرتاه! باريس لم تعد إلا فغرة béance، لا مكان فيها للأمل، لم يصدق عليها الإحباط. تعرف، أن باريس هي مكاني الغيري، بالاختيار حيث لغة الغير كانت لغتي، دللتها متحدثة بها: غرغرتها. في باريس، كنت أعرف كل حجر، وكل مبنى، والمداخل المسدودة، والأزقة الملتوية، والظلال والأضواء، وجزيرة القديس لويس Saint Louis لحظة أكثر منها مكانا، الأكشاك، والنافورات، والسكارى، و»المنقلين» les transférésوأنا. باريسية لا تكف عن المرور، مجنونة، في فورة عارمة، بهذه المدينة من بين أخريات مفضلات.
أمست قبرا لأملي، مدينا شبحا، لعالمي المشيد والصلب، الملحاح حتى تقضى الحاجات دون تعثر، وتطرح في العالم، مكشوفة. اليوم صار الأمر عندي مأساويا، وأنا أراها وأمر بها وحدي، مكرهة، ومنكسرة، تطفو نفسي، من فوق جسر الفنون، مسكونة من قبل برحيلي.
لا أقدر للأسف، ادعاء موسيقى مغني الجاز صحبة شخصية ثانوية comparse إلى مقامه، عائدين مخمورين جنوا من الغناء، ومنهكين من فنون القتال الإفريقية، حداثة أمريكا والجسر بين البكاء والضحك…
ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد، أنك ستصبح كذلك، أكثر خبرة وثراء وحلما، بباريس الكريمة والمفكرة…لن تعيش في حمام تعريق l’étuve الذي أصادفه في كل مقطع: كيف؟ هو كل ما تعرفونه عن الطب، وكل ما تقدرون على إبداعه، وتطبيقه تطبيقا جيدا؟
عبد الكبير، لم أفتتح معك أبدا نقاشا علميا! لأن العلم ما هو إلا تخيل، وأحبولة بعد السحر والشعوذة. أحبولة سرقت مني الأجلى في حياتي، كبح إبداعا، وأغلق فكري التخييلي والأدبي. أنا جد مرتبكة جراء استشهادك ب»موريس بلانشو».
لا أعرف سوى ثلاثة أشخاص يتخذونه مرجعا. فهو إذا كاتب/مفكر للمطلعين؟ «الفضاء الأدبي» هو زمان لفترة طويلة.
بفضلك نكتشف ما تسميه النص الأشد «غرابة» ل»موريس بلانشو»: كتابة الفاجعةL’Ecriture du désastre، لا أعرف غير الذهاب نحو الكلمات ل:dés-astre
كم من خلية عصبية، وعلاج كهربائي، و…. عندي فيها من القصور حتى لا أقدر على تناغم فكري في تعبير أكثر رهبة، أقوى مما نجده عند «بلانشو» و»بروست»؟
غير أن عزاء يستحيل إشباعه؛ لأن انحناءاتي مختلفة تماما، متعددة، ومذهولة، إذ لن يبقى سوى جني حتى يقدر على صباغتها جميعا وإخفائها، بما في ذلك، هذه اللغات التي تسحرك، والتي تتكلم عنها بغزارة علمية، وفيض من الوعي. وهي عندي اليوم، مجرد ألم ووجع. لساني مفلوق، تعذيب يمارس داخل السجون التركية في الأفلام الأمريكية.
أفل نجمي
اسود ليلي
أرسم رسائل، وكلمات مكتوبة، بهاتين الجملتين مليون مرة، أنفخهما في طرود ذاهبة إلى كل جهات العالم. إنهما أنشودة البجعة الخاصة بي، وما غدرت به.
قصائدي هي أفرشة الدم تسبح فيه تمزقاتي. تفجرها السيء البناء هو رسالتها النبيلة. صناعتها تدلل وغندرة. أن أنتهي، هذا ليس جميلا، ولا قابلا للحكي…ولا جماليا esthétique. وأن أنتهي، هو ما أعيشه في كل لحظة، حتى وإن كنت ألعب دور: «أنهض لأحاول أن أوجد أكثر» …
من الغريب أن ينبثق مني، ما يقارب الشبيه لأقول إنه مطابق. ألفت «كتابا كله حول غياب العزاء: «سفر الدم» Le livre du sang، أستشهد بك. أولم يكن الكتاب سوى فراش، على كل حال، يسبح فيه الدم؟ المشيمةla placenta هي أيضا نوع من الكتابة، قطعة حلوى مطعمة بالدم. لن أفصل في معرفتي الطبية، كي أشرح أن انتفاخ الذكر ما هو إلا احتقان مؤقت للدم! اليوم، أمقت الطب مقتا شديدا، وأفضل الانضمام إلى من يثمنون أن التفكير ينكتب، وأن الحب يقرأ، وأن العيش ليس فعلا مستقلا وحرا، وإنما هو رغبة الكثيرين وهي متقاسمة!
شكرا على الكتب، كانت التفاتة رائعة!
الدار البيضاء 98.3.2
من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 19- الرسالة 19: العلم ما هو إلا تخيل
الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم
بتاريخ : 06/05/2021