خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..
تعتمد الروايتان التوراتية والبابلية على العناصر نفسها، وتسير الأحداث فيهما على نحو متوازٍ. فقرار الطوفان يتخذه الإله إنليل في الرواية البابلية بعد موافقة مجمع الآلهة عليه، وفي الرواية التوراتية يتخذ القرار الإله يهوه منفرداً نظراً لعدم وجود مجمع للآلهة. أما الدافع إلى ذلك فهو ازدياد شر البشر على الأرض، على ما نفهم ذلك بشكل صريح في مطلع القصة التوراتية، وبشكل غير مباشر في نهاية القصة البابلية، حيث يقول إيا لإنليل: ” كيف دونما ترو جلبت هذا الطوفان؟ كان بإمكانك أن تُحمل الآثم إثمه والمعتدي عدوانه … الخ “. بعد ذلك يقوم كل من الإله إيا والإله يهوه باختيار رجل صالح لمهمة إنقاذ بذرة الحياة على الأرض، ويعطيه تعليمات مفصلة حول مخطط السفينة وكيفية بنائها. ففي الرواية البابلية تتخذ السفينة شكل مربع، وتنقسم إلى سبعة طوابق والطابق إلى تسع حجرات. أما في الرواية التوراتية فتتخذ شكل مستطيل وتنقسم إلى ثلاثة طوابق، والطابق إلى عدد غير محدد من المساكن. بعد ذلك تنتقل التعليمات إلى تحديد ركاب السفينة وما يُحمل فيها من متاع. فقد كان على أوتنابشتيم أن يحمل معه عدداً غير محدد من أهله المقربين وممتلكاته، وعدداً غير محدد أيضاً من حيوانات الأرض. وكان على نوح أن يحمل معه امرأته وأبناءه ونساء أبنائه، ومن الحيوانات من كل زوجين اثنين، إضافة إلى ما يكفي من طعام. ولكن أوتناشتيم كان أكثر فطنة من نوح لأنه حمل معه أيضاً نخبة من أهل الصناعة والحرف، من شأنها حفظ منجزات الحضارة من الضياع .
انداح الطوفان في الروايتين بتأثير عاملين رئيسيين هما ماء المطر والمياه الباطنية التي تفجرت من أعماق الأرض، وأضافت الرواية البابلية إلى ذلك مياه السدود التي انهارت. وقد استمر طغيان الطوفان في الرواية البابلية سبعة أيام، تلتها سبعة أيام أُخر استقرت السفينة خلالها على جبل نصير، أثناء ذلك وعلى ثلاث فترات غير محددة أطلق أوتنابشتيم على التوالي ثلاثة طيور هم الحمامة والسنونو والغراب.أما في الرواية التوراتية فلدينا خبران موضوعان جنباً إلى جنب؛ الخبر الأول يحدد أربعين يوماً لطغيان الطوفان وأربعين يوماً لتراجعه، إضافة إلى ثلاثة أسابيع أطلق خلالها نوح الغراب أولاً ثم الحمامة مرتين، أما الخبر الثاني فيحدد المدة بنحو سنة كاملة، 150 يوماً لطغيانه و150 يوماً لتراجعه إضافة إلى فترات متقطعة أخرى بما فيها إطلاق الطيور. وقد رست السفينة بعد تراجع الطوفان على جبل يدعوه النص بجبل آراراط .
بعد أن تأكد كل من أوتنابشتيم ونوح من انحسار الطوفان عقب بشارة الطائر الثالث، أطلق ركاب السفينة وقدم قرباناً لإلهه. يلي ذلك مباركة إنليل لأوتنابشتيم وزوجته واسباغ نعمة الخلود عليهما، ومباركة يهوه لنوح وبنيه وإعطائه عمراً مديداً بلغ 950 سنة. أما عن الميثاق الذي عقده يهوه مع كائنات الأرض بعدم إرسال طوفان مدمر مرة أخرى، وقوسه الذي وضعه في السحاب (وهو قوس قزح) ليذكّره بميثاقه، فيقابله قول الإلهة عشتار عندما رفعت عقدها اللازوردي: “كما أني لا أنسى هذا العقد اللازوردي في عنقي، كذلك لن أنسى هذه الأيام، وسأذكرها دوماً. ”
بين الرواية القرآنية والرواية التوراتية:
وردت قصة نوح والطوفان في القرآن الكريم بشكل مختصر في السور التالية: (7 الأعراف:59-64)، (10 يونس:71-73)، (26الشعراء:105-122)، (37الصافات: 71-83)، (54 القمر:9-16)، (23 المؤمنون:23-31)، (71 نوح:1-8). وهنالك إشارات عابرة إلى القصة في السور التالية: (21الأنبياء:76-77)، (25الفرقان:77)، (29 العنكبوت: 14-15)، (40 غافر: 5-6). أما القصة الأكثر تفصيلاً فقد وردت في (سورة هود: 25-49) .
تحتوي الرواية القرآنية على العناصر الرئيسية للقصة التوراتية وتسير على التوازي معها، ولكن باستخدام الأسلوب المكثف الموجز الذي يقفر فوق التفاصيل:
1 – شر البشر يكثر على الأرض، والله يختار الرجل الصالح نوحاً لهدايتهم:
«إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم. قال: يا قومِ إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعونِ يغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى، إن أجل الله إذا جاء لا يُؤَّخر لو كنتم تعلمون. قال: ربِ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً». (71 نوح: 1-8) … « ربِ لا تذر على الأرض من الكافرين دَّياراً، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً «. (71 نوح: 26-27) .
ونلاحظ هنا أن الرواية القرآنية قد انفردت بذكر الدعاء الذي توجه به نوح إلى ربه لكي يهلك الكافرين ولا يترك لهم أثراً. وهذا يعني أنه كان يتمنى على ربه أن يرسل كارثة شاملة لا تبقي ولا تذر .
2 -قرار الطوفان والإعلام عنه والتعليمات:
«وأُوحيَ إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفُلْك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون.” (11 هود: 36-37) .
«حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأَهلَكَ إلا من سبق عليه القول، ومن آمن وما آمن معه إلا قليل.” (11 هود: 40) .
نلاحظ من قوله تعالى: ” واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ” أن نوحاً كان يصنع السفينة تحت إشراف الربّ بعد أن تلقّى منه التعليمات الخاصة بذلك وحياً. كما أنه قد حمل زمرة من الصالحين إضافة إلى أهله، وهذا عنصر غير وارد في الرواية التوراتية. أما عن التنور الذي فار عند ابتداء الطوفان، فيقول أغلب المفسرين بأنه تنور كانت تخبز فيه امرأة نوح الخبز، ومنه تدفقت المياه السفلية.
3 -دخول الفلك واندياح الطوفان:
«وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم. وهي تجري بهم في موج كأنه الجبال. ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. وحال بينهما الموج فكان من المُغْرَقين.” (11 هود: 41-43).
تنفرد الرواية هنا بذكر قصة ابن نوح التي لم ترد في التوراة. كما أنها لا تنص على فترة معينة لطغيان الطوفان وتراجعه.
4 -تراجع الطوفان والرسو على الجبل:
« وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي. وغيض الماء وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بُعداً للقوم الظالمين». (11 هود: 44) .
نستدل من قوله أعلاه: ” يا أرضي ابلعي ماؤك ويا سماء أقلعي” على أن علل الطوفان كانت مياه الأمطار والمياه السفلية التي تفجرت من الأعماق. أما الجودي فهو جبل بالعراق قرب الموصل .
5 -النزول ومباركة بطل الطوفان :
«قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ..48 هوه ” (11 هود: 48).
ونلاحظ هنا غياب عنصر إطلاق الطيور الوارد في الرواية التوراتية .
وقد أنعم الله على نوح بحياة مديدة، فعاش عدداً من السنوات يعادل ما ذكرته الرواية التوراتية.
* نقرأ في سورة العنكبوت :
«ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً». (29 العنكبوت: 14) .
* ونقرأ في سفر التكوين:
«وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمئة وخمسين سنة، فكانت أيام نوح تسعمئة وخمسين سنة، ومات” (التكوين 9: 28) .
الهوامش:
1 – Alexander Heidel, The Gelgamesh Epic, Phoenix, Chicago , 1963 .
2 -انظر ترجمتي الكاملة للوح الحادي عشر من النص في مؤلفي ” جلجامش – ملحمة الرافدين الخالدة ” .