ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
في البداية، لا أحد في وطننا الحبيب كان يتكلم عن الداء الغامض، فقط بضع فيديوات مسربة من الصين، في مدينة اسمها يوهان، قالوا إنهم أصيبوا بڤيروس خطير بسبب أكلهم للخفافيش وأن سلطات الصين تتكتم عن الخبر.
لم أهتم بالأمر، أوبئة كثيرة عاشتها ماما إفريقيا، بقينا بعيدين عن آثارها المخيفة، إيبولا، حمى الخنازير، جنون البقر، والآن جرثومة الخفافيش، بعيدا عنا حيث آكلي الضفادع والثعابين وكل ما لا يخطر على البال.
تلاحقت الفيديوهات القادمة من امبراطورية الشمس، كما يحدث في أفلام القيامة والرعب والخيال العلمي، حديث عن إصابات قاتلة، عنف رسمي لفرض حجر صحي على ساكنة يوهان، منع من الخروج من بؤرة الوباء، وتعنيف بالعصى والأسلحة لمن خالف الأوامر، والحديث عن حقوق الإنسان في خبر كان.
بالدارالبيضاء قليلون من كانوا يتابعون ما يقع داخل بلد ماوتسي تونغ، أما القارة العجوز فاكتفت بالمتابعة الممزوجة بما يشبه التشفي في التنين الاقتصادي، ومحيط الوباء المزعوم بعيد عن أوروبا وعواصمها المنشغلة بالاستهلاك وتلويث الفضاء بالأدخنة والسموم الخفية.
بين منطق الواقع القاهر وفقه المؤامرة المفترضة، تلاحقت صور معاناة المصابين في أجنحة الإنعاش، وتصاعدت أعداد الوفيات، استسلمت دول أوروبا لقهر الجائحة، ضحت بشيوخها بمبرر إنقاذ شبابها، ولعل قول أحد المسؤولين الإيطاليين «فعلنا كل شيء، ولم تبق أمامنا سوى رحمة السماء» كانت كافية للتأكيد على عجز البشرية عن مواجهة الڤيروس اللعين.
هذه الكرونولوجيا بغرض تقديم الجواب عن سؤال اليوميات، أراها ضرورية لفهم ما صاحبها من ردود فعل ومواقف انطلقت مع ظهور أول حالة إصابة قادمة من إيطاليا، وما تلاها من قرارات كانت متوقعة سبقتنا إليها إيطاليا وبريطانيا وإسبانيا وبقية الدول الأوروبية.
تقرر الحجر، كل واحد أقفل عليه باب بيته، بسبب الرعب والخوف من الڤيروس وتبعاته الغريبة القاتلة، بدا لي أننا صرنا في سجن كريه، شخصيا برنامج يومي المعتاد كان يبدأ دائما بكأس قهوة في المقهى، طلبا للصحو الكامل، وبقية الأغراض تكون ذريعة لتحرك المتقاعد والمشي الصحي لمسافات.
تم فرض الحجر الصحي الكامل، الشوارع والدروب تحولت إلى قلاع لنشر الوباء، والبال منشغل أكثر من اللزوم بالابتعاد عن البشر وتأمين البقاء، أي خوف هذا الذي يمنعك من أن تكون هادئا؟! وأي رعب هذا الذي يعيق رغبتك في التحليق والتخييل والسفر مع خطاطات مشاريع المستقبل؟!
ولأني من النوع الذي يعيش الأحداث اليومية بكل جوارحه، انشغلت بمتابعة الأخبار والتفاصيل في مواقع اليوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي التي صارت وحدها وسيلتنا المثلى للتواصل مع العالم الخارجي، ورصد تطور الوباء وتتبع ردود الأفعال .
لحسن الحظ أني أعتبر ــ منذ سنوات ــ الفايس فسحة حرة أعبر فيها عن آرائي الخاصة دون رقيب، أثارتني مواقف غربان الظلام من الجائحة ومن فرض الحجر وإقفال المساجد، وغاظني أكثر غباء الملتحين حين قرروا الخروج للشارع والتظاهر ضد كورونا وضد صرامة تطبيق إجراءات الحجر، صعدوا إلى السطوح، أطلقوا الآذان بمكبرات الصوت، ووسط خرائب السطوح المهجورة، صلوا في جماعات متفرقة.
أكاد أصدق على وجه اليقين أن الكثير من خرجات الغربان من صنف الفايد الذي أكد في إحدى خرجاته أن رمضان سيقضي على كورونا، وخفافيش الظلام التي اعتبرت الجائحة عقابا من الله إنما هو خبث مقصود لتكريس غباء ملتح يواصل حضوره بيننا عبثا.
كبرت في أسرة كبيرة العدد، تسعة أبناء وبنات، ولا مشكلة لدي، تعودت على احتضان حبيبتي الكتابة، في أي زمان وأي مكان، حين تداهمني رغبة البوح والتحليق مع تفريعات فكرة تفرض نفسها علي، لا أحتاج لاعتزال الناس، هي مسألة تعود، حتى وأنا وسط جوقة العائلة ولغط الإخوة، أستسلم للعزلة الذهنية، وأمارس فعل الكتابة كمتصوف لا يرى ولا يحس سوى بما يكتب.
وفي الأصل، أنا كائن «بيتوتي»، لا مشكلة لي في البقاء والاعتكاف في البيت، لكن واجب الالتزام بالحجر الصحي، والمنع من الخروج وقتما نشاء، كرس عندي فكرة فقدان الحرية، هي مسألة نفسية وذهنية ليس إلا، وكبر الإحساس بأننا دخلنا السجن المادي والمعنوي خوفا من جائحة مرعبة.
داهمتنا الجائحة، لم نكن متعودين على قرارات المنع والحجر، واكتفيت برصد ردود أفعال الخفافيش والغربان، كتبت مقالة مطولة حول « كورونا تفضح الغباء المقدس «، وبعد التعايش مع تداعيات الوباء، كتبت قصصا وقصائد في وصف حالتنا وأعطابنا المتناسلة، وللصراحة .. لا أعتقد أن كورونا قد أهدتني حرية مزعومة، ذلك أن يوميات كائن متقاعد تبقى خالية من التزامات العمل، واحترام استعمال زمني محدد سلفا.
والخلاصة، خلال عام من العزلة، عشنا تجربة وجودية فريدة على كل المستويات، زلزال مرعب مسح مائدة البشرية، ومحطة تاريخية مفتوحة على قيم مغايرة وقناعات غير مسبوقة، فكم سنحتاج من الوقت لتوثيق الخوف السائد من فيروس قاتل، ورغم ذلك لن نشكر كورونا والوحش الذي اخترعه، لكنه قدم لنا خدمة غير متوقعة، وجعلنا نكتشف أن الكثير من المسلمات مجرد ادعاءات جوفاء وأكاذيب تهاوت، وصارت لائقة بمزبلة التاريخ.