«ألاعيب الحقيقة» في كتاب «السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع» لمحمد الداهي

 

صدر مؤخرا للباحث المغربي الدكتور محمد الداهي الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط كتاب بعنوان: «السارد وتوأم الروح، من التمثيل إلى الاصطناع»، عن المركز الثقافي للكتاب في 400 صفحة.
يعد هذا الإصدار بحثا عميقا في المحكيات الذاتية بالتنقيب في المنطقة الوسطى أو الطائشة التي تفصل منذ أرسطو بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل؛ وذلك بالاحتكام إلى عُدَّة مصطلحية تسعف على إبراز المواقع التي يشغلها الكاتب أو قرينه في السرد ، والمقاصد التي يتوخى إيصالها إلى مخاطبه المحتمل، والقدرات التأويلية التي يستخدمها القارئ في تحريك المؤشر إلى الوجهة التي تناسبه ( وهكذا قد يتعامل مع سيرذاتية كما لو كانت رواية والعكس صحيح).
أولى الباحث العناية للموقع الذي يشغله قرين المؤلف أو قرناؤه في السرد، داعيا إلى تناول الكتابة عن الذات بالمفاهيم المابعد حداثية، بغية مراجعة كثير من المفاهيم التقليدية، التي كانت تراهن أساسا على توطيد المشابهة والمطابقة بين الكتابة والوجود، وبين الكاتب والسارد. ومن ثم انتقلنا من إبدال المشابهة (semblance) الذي كان يراهن على تماثل الكاتب والسارد في المحكيات الذاتية إلى إبدال المشابهة الفائقة (Hypersemblance) الذي أضحى القرين بمقتضاها ينافس الكاتب الحقيقي، ويلغيه، ويحل محله ( ما يصطلح عليه بالواقع الفائق)، أو بعبارة أخرى وقع تحول في الفكر البشري من المراهنة على الحقيقة إلى اصطناعها.
لم يقتصر الدكتور محمد الداهي- في هذا السفر الكبير- على بيان كيف تتجسد صورة الكاتب في المحكي الذاتي، بل اهتم كذلك بإبراز طبيعة العلاقة المعقدة بين الكتابة والوجود، وبين نظامي الأشياء والكلمات، وما يقال وكيف يقال، وما يعبر عنه وما يضمر، إذ أشار الكاتب إلى تغيير معايير القراءة عبر التاريخ، ممَّا يحفز القارئ على إعادة تجنيس النصوص الملتبسة التي لا تستقر على هيئة ثابتة.
أوضح الكاتب أن الرواية تتميز عن السيرة الذاتية بقدرتها على النفاذ إلى طوية الإنسان والصدع بما يجول فيها، وبالمقابل تظل السيرة الذاتية أكثر نرجسية من الرواية، لأنها تتمحور حول الماضي الشخصي للذات (السرد الاسترجاعي)، وتُعنى بشفافيتها الداخلية (السرد النفسي)، وبحقيقتها الشخصية (الصدع بالحقيقة). وخلص الكاتب من المقارنة بين صورتيْ كاتب السيرة الذاتية الروائي، إلى أن الأول يتعهد بقول الحقيقة، ويبرم الثاني مع القارئ ميثاقا تخييليا؛ وإن كان كاتب السيرة الذاتية يستثمر مساحات التخييل لتعتيم وقائع بعينها، فإن أحذية الروائيين تلوح من تحت الستار وإن تواروا خلفه ( أيا كانت قوة التخييل فهي لا تخلو من المكاشفة والبوح الذاتييْن).
وقف الباحث متأنيا عند انتقال مركز الاهتمام من السؤال عن مدى ملاءمة أو حقيقة ما يسترجعه الكاتب عن نفسه، إلى الكيفية التي يقدم بها الكاتب صورة عن ذاته. فمن جهة يستخدم الكاتب وسائط فنية وتخييلية لاختلاق صورة أو تصنُّعها، ومن جهة أخرى يتوهم كل قارئ صورة عن الكاتب المحتمل. وعليه، تكون هذه الصورةُ التي نتخيلها عن الكتاب – بحسب محمد الداهي- ثمرةَ معرفة استعارية، بحكم أنهم أضحوا مجرد أدلة نضطلع بتفكيك شفراتها وتأويلها. وتمر هذه الأدلة عبر مصفاة العلائق اللغوية والرمزية المعقدة التي لا يمكن لها- بأي حال من الأحوال- أن تنسخ الواقع أو تعكسه كما هو.
عالج الباحث كل هذه الإشكالات من خلال اشتغاله على متن متنوع من المحكيات الذاتية ناهز اثنين وثلاثين نصا، وناقش كيفية تمثيل الحقيقة بطرائق وصيغ سردية متعددة ومختلفة.
كيف يتداخل الواقعي والتخييلي في المحكيات الذاتية إلى أن يصلا درجة عالية من الالتباس والتهجين؟
لماذا يتقنَّعُ المؤلفُ بأقنعة مختلفة؟
كيف تتشابك المحكيات الذاتية في ما بينها شاغلة مواقع معينة إلى أن تتزحزح عنها بظهور مؤشرات محتملة في الأفق؟
يثير الباحث هذه الأسئلة وغيرها في معرض دراسته، ويجيب عنها في خضم تحليله للمتن المدروس.
خصص الباحث القسم الأول من الكتاب لمواكبة «رحلة الزمن بالأثر»، من خلال بعض العينات المختارة، والمتفاوتة في أدبيتها وزمنيتها وجنسيتها (مذكرات، ورواية سيرية، وسيرة ذاتية)، بهدف إبراز حركة الذهاب والغياب القائمة بين الماضي والحاضر، والتدليل على القيمة الرمزية والتاريخية للأثر، ودوره في إضاءة بعض الأحداث المغيبة من التاريخ العام، يقول محمد الداهي في هذا الصدد: «يتدخل السارد، مؤرخا أكان أم شاهدا، في إعادة تشكيل الحدث المسترجع ووسمه بطابع الذاتية التي تتخذ أشكالا معينة بالنظر إلى طبيعة المتلفظ ومقاصده» (ص.150).
استعرض الباحث في القسم الثاني الموسوم بـ « جدارية ستندال» أهم الخلاصات المستنتجة من العينات السيرذاتية، مشيرا في الآن نفسه إلى تأرجح المؤشر بين التخييل (مناطق الظلام والأشباح) والمرجعية (المعالم الواضحة والبينة) بالنظر إلى طبيعة المعطيات المعروضة؛ إذ يتضح أن أجزاء من الجدارية السيرذاتية تندثر بفعل عوامل التعرية، وهو ما يحتم على كاتبها ترميمها وتأثيثها من جديد، مضفيا التخييل على المناطق المظلمة أو المنسية. فكل ترميم أو تذكر هو رواية جديدة تضفي مزيدا من البهاء والرونق على الأحداث المستعادة.
انتقل الباحث في القسم الثالث المعنون بـ «المنطقة البينيَّة» من الكتاب لمقاربة ظاهرة التهجين، التي تُسِمُ عينةً من المشاريع الذاتية على الحدود (المنطقة الملتبسة التي تفصل بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل). يرى البعض أن القارئ لا يتعامل مع الواقعي والتخييلي في تزامنهما بل في تعاقبهما، لأنهما ليسا تجليا للتهجين والتماهي، وإنما ثمرة الاختلاط والتناوب.
وهكذا نجد أنفسنا- بحسب الدكتور محمد الداهي- أمام ثلاثة مواقف متباينة: موقف الرفض الذي يقر أن الرواية والسيرة الذاتية تتطوران في منطقتين متناقضتين، وإن اتفق الموقفان الآخران (التهجين والاختلاط) في وجود منطقة بينية ملتبسة تفصل ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، فهما يختلفان في رسم الحدود بين الواقعي والتخييلي، وفي تمثيل نقطة تماسهما واحتكاكهما (أهما متزامنان أم متعاقبان؟).
يستخلص الباحث محمد الداهي أن استقلال التخييل الذاتي وإن كان مغريا، فإنه يستعصي ولوج منطقته أو رسم حدودها، وهذا ما يستبعد اعتبار التخييل الذاتي جنسا قائما بذاته، ويعزز الموقف الرافض الذي لا يرى فيه إلا جمعا لجنسين سابقين؛ وهما التخييل والسيرة الذاتية. يتطرق محمد الداهي في السياق نفسه إلى اختلاف السيرة الذاتية عن التخييل الذاتي، بحيث تحرص السيرة على ميثاق الحقيقة بصوت الكاتب، في حين يزعم التخييل الذاتي أنه لا يتقيد بأي ميثاق (اللاميثاق).»يميل أغلب النقاد إلى اعتبار التخييل الذاتي امتدادا للسيرة الذاتية إن لم نقل سيرة ذاتية ما بعد حداثية[…] إن المسألة أعمق من ذلك بدعوى الانتقال من إبدال الحداثة (التمثيل، والمشابهة، والمطابقة، الوعي بالذات) إلى إبدال ما بعد الحداثة (التصنع، والاصطناع، وتبادل الأدوار والأقنعة، وتعدد الذاتيات والأصوات، وتملك الآخر)» (ص.378).
يخوض الكتاب عموديا في مواقع القرين، ويتناول أفقيا مشكل التحقق(vérdiction) بصفته سلطة تزعم  قول الحقيقة ، وتحرم سلطا محتملة من أن يكون لها خطابها الخاص، حيث يتناول محمد الداهي في كل باب حقيقة من الحقائق المفترضة بالنظر إلى قربها من ملفوظات الواقع أو ملفوظات التخييل أو بعدها عنها، ومدى ملازمتها لخطاب المؤلف أو قرينه بعد إلغاء ذاته، وذلك من خلال وضعها بتصرف الدال باعتباره سلطة تلفظية.
لا يرمي هذا الكتاب بحسب مؤلفه إلى بيان كيف تضاهي المحكيات الذاتية التاريخ أو تنافسه في تمثيل الحقيقة التاريخية، بل يهدف إلى بيان ما تتوفر عليه المحكيات الذاتية من معطيات قد يستفيد منها المؤرخ في إضاءة حدث ما أو إماطة اللثام عن خباياه وأسراره، ما يقتضي توسيع شعرية الذاكرة لمعاودة النظر في كثير من الأحداث السابقة، بعد أن أعطيت الكلمة لمن عاشوها أو شاركوا فيها للإدلاء بشهادتهم.
خلص الباحث في الختام إلى مدى هشاشة الوهم النرجسي الذي يزعمه السارد ومدى انهيار سلطته السردية، مما يؤدي إلى سحب الثقة منه، وإعطاء الكلمة لأصوات بديلة (ومن ضمنها أصوات قرنائه وأشباهه) للصدع بالحقيقة من وجهات نظر متعددة، كما أكد على أنه لم يكن هدفه التوقف عند القدرات التأويلية للمتلقي للتمييز بين ما هو حقيقي وما هو كاذب، بل سعى إلى التركيز على ما يزعم المتكلم قوله وإظهاره له حرصا على كسب مودته وثقته، واستعان في هذا الصدد بجهات التحقق (الظاهر والكينونة ونقيضهما) لبيان كيف تتجسد «ألاعيب الحقيقة» في المربع السيميائي، مما يولد حالات كثيرة تشوش على صِدْقيَّة الحقيقة، ونقاوة الأصل، وطُهر الهُوية ( السر، والكذب، والتصنع، والاصطناع، والزيف، والاختلاق، والتخريف).
يشير الكاتب- في الختام- إلى أنه آثر باشتغاله على المحكيات الذاتية أن يبقى على الحدود لتفادي التصنيف الاعتباطي، وممارسة النقد بحرية دون أن يساوم (مع أو ضد)، ومواكبة كيف يتجاذب التخييل والواقع، ويتبادلان الأدوار والمواقع بين الحدين الأقصيين (ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل).


الكاتب : مريم الجنيوي

  

بتاريخ : 08/05/2021