بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.
أي شرعية يمكن أن يكتسيها حسبكم إخراج شهادات مأخوذة من «بؤس العالم»، ألا تعتقدون أن هناك تغيرا في طبيعة النظام، تغير السجل الاجتماعي والسياسي، بتحويل تلك الشهادات إلى عمل مسرحي؟
لا يمكن لذلك أن يمثل الشرعية المقترنة بالتحليل العلمي. إن الإخراج يُحدث بالضرورة تغييرا للسجل، يكون مرتبطا بالتنميط وبفقدان الواقعية الذي يترتب عنه. لذلك لا ننظر بغير ازدواجية للاقتباس المسرحي كيفما كان. فالخطابات التي نشرناها ولدت في وضعية خاصة، ولدت من علاقة اجتماعية متفردة جدا، تلك التي نشأت، في عدد من الحالات (لا يكون ذلك ممكنا دائما)، بين الشخص المستجوَب وباحث، مسلح بمعرفة معمقة للعالم الاجتماعي الذي يُدمِج فيه محاوره والموقع الخاص الذي يحتله في ذلك العالم. إن الأسئلة، كما هو الحوار السقراطي، تلعب دورا أساسيا، حتى (وبوجه خاص) لو كانت في ظاهرها عديمة الدلالة. لكي نقتنع بذلك، يكفي أن نقارن حواراتنا بالاستنطاقات شبه البيروقراطية، التي نقدم منها بعض العينات آخر الكتاب. لذلك لن أتحدث عن «شهادات»، بل عن خطابات «إدانة». وهي ليست كذلك. فأولئك الذين يتحدثون كما يتحدثون في «بؤس العالم»، لا يقومون سوى بإعلان الكون، كونهم هم، كون العالم الاجتماعي حيث هم. وعمل المستجوِب، الذي ليس لا صحافيا، لا شرطيا ولا قاضيا – هناك أشخاص كثيرون يُنتدبون لجمع «شهادات» -، يقوم على خلق شرط فعل الإعلان ذلك، المخصص عادة – على الأقل من حيث القصد والادعاء – للمثقف. إلا أن عمله لا يتوقف هنا ولتجنب إلا يرجع كلام الأسخاص المستجوَبين إلى وضع «الشاهادات»، أو الأسوأ أن «الحوارات»، يكون على الباحث أن ينقل القارئ، الأدوات الضرورية لإعادة بناء شروط النظرة والاستماع، التي حركها في سير الحوار. ذلك هو دور النصوص الاستهلالية، التي تحاول أن تقدم، للجميع، تقنيات وأدوات المولدين، الذين جعلوا الإعلان ممكنا والأقوال قابلة لإعادة الإنتاج.
بالنظر إلى هذه القضايا، كيف تفسرون العدد الكبير من الاقتباسات المسرحية من هذا الكتاب؟
أعتقد أنها تؤكد أن الكثير من الناس سمعوا و، في الوقت نفسه، لم يسمعوا بشكل جيد، ما يُقال في هذا الكتاب. فالكثيرون، الذين كانوا يبحثون عن «فن الشهادة» اعتقدوا أنهم وجدوا في الكتاب ما كانوا يسعون إلى القيام به؛ لكنهم فعلوا ذلك وهم ينسون الارتباط بالشروط، التي كان لا بد من الاضطلاع بها لإنجاز الكتاب وإنتاج تأثير (أو وهم) العادي على نحو رائع، الذي خلفته فيهم الخطابات المجمَّعَة. لقد تعاملوا، مثلا، مع النصوص الاستهلالية كما لو كانت مجرد توجيهات مسرحية. لقد أخذوا بمثابة «نأي بالنفس» تلك المسافة المدرجة في ما أسميه «الموضعة المشاركة». هناك سوء تفاهمات كثيرة لا تحمل في طياتها أي شيء درامي، لكنها تقود إلى اعتبار مشكل الإخراج كما لو كان محلولا، مشكل مسرحة الأقوال المنتجة داخل علاقة مسرحية إلى حد ما – ربما قابلة للمسرحة إذن – ما أمكن ذلك. ربما يرجع ذلك إلى أنه تم تبخيس قيمة عمل السوسيولوجي، طبيعة تدخله (لجعلها مفهومة، أسميها «سقراطية»، لكنني مقتنع بأنها بالتأكيد أكثر تعقيدا من طبيعة تدخل الفيلسوف)، ما جعلنا نجد في تلك النصوص الإنجاز المثالي ل «فن الشهادة»، منتوجا جاهزا لأجل «مسرح نقد». بناء على ذلك، فإن خطابات السوسيولوجي، سواء تلك التي يساعد في إنتاجها أو تلك التي ينتجها، معرضة دائما لسوء تفاهم من هذا القبيل؛ وناس المسرح الذين استحودوا، بكثير من الحماس في معظم الأحيان، بكثير من الذكاء، على «بؤس العالم»، كانت لهم الجدارة الاستثنائية فعلا لسماع ما تضمنته من غير مسبوق، من غير المسموع من قبل، الخطابات التي أنتجها أشخاص «عاديون» كلية،
Das man
المعروفة،
On
التي يطلقها الفيلسوف على «الثرثرة اليومية» (بإمكاني أن أقول ذلك بالألمانية…) وسماعه درجة التعامل مع هؤلاء الرجال، الذين لا ميزات لهم، كما يعاملون الكتاب عادة، أي كذوات مبدعة، وأن يجعلوا أنفسهم في دمتهم، كما يقال…
في مقال نشرته «ليبيراسيون» (1) تتحدثون عن «ممارسات نضالية جديدة». كيف سيكون ممكنا، حسبكم، التدخل في الحقل الإعلامي، وانطلاقا من مؤسسة الدولة، دون أن يكون لسلطات هامة تأثير الرقابة؟
المشكل صعب ويلزم وقت، الكثير من الوقت، لكي يُخلق نموذج جديد لتدخل المثقفين. فالبرلمان الدولي للكتاب ينبغي أن يكون أولا مختبرا للبحث عن أشكال للتدخل، تكون جديرة وفعالة في نفس الوقت. العمل الأول، الذي نحن بصدد الاشتغال عليه، يقوم على إقناع خيرة الكتاب و أكثرهم حظوة، الفنانين والعلماء لكي يخرجوا من التقاعد الذي تمت إحالتهم عليه في معظم الأحيان بالكثير من الاشمئزاز و الاحتقار اللذين توحي لهم بها الإيماءات الإعلامية لمحترفي التدخل المثير الذين يزعمون، وهم ينتحلون صفة المثقفين، أنهم يتحدثون باسمهم. من بين العوائق الرئيسية التي ينبغي تجاوزها، هناك، بالتحديد، عمل المثقفين الصحافيين، الذين يُدرجون في الحياة الثقافية وفي الفضاء العمومي منطق صناعة الترفيه، السعي الوقح للظهور مهما كلف الثمن، تهريب رأس المال الرمزي، ويقيسون أهمية «قضية» بمردوديتها الإعلامية، أي بعدد الكاميرات والمصورين الذين يمكن أن تجتذبهم. بإمكاني تقديم آلاف الأمثلة، القديمة والجديدة… واحد: أثناء الحركة ضد الانقلاب في بولونيا، حين نزلت، رفقة ميشيل فوكو، من المنصة حيث كنا منشغلين بالنقاش مع ممثلي الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل، إيدمون مور بوجه الخصوص، وسوليدا رنوش، لاحظنا واحدا من محترفي التدخل الثقافي بصدد إعطاء حوار للتلفزة بخصوص مقاولة كان غريبا عنها كلية. هؤ لاء المثقفون الإعلاميون «مفسدون» كما كان يقال في القرن التاسع عشر عن التشكيليين الرديئين. إنهم يسقطون المصداقية عن القضايا التي يتظاهرون بخدمتها و بإمكانهم جعل ظهورهم الإعلامي المكتسب بطرق سيئة في خدمة أسوأ الأعمال الرمزية. أفكر مثلا في المساهمة التي يقدمونها اليوم لتشجيع شكل ناعم، لا يُنتقد سياسيا، للعنصرية المناهضة للإسلام، (حتى لا أقول المناهضة للعرب) بتحولهم إلى مشنعين ب «نزعة إسلامية» غير متمايزة يُضمنونها دون تمييز البانغلاديش، إيران، مصر، الجزائر وذوات الاصول المغاربية المحجبات بنات الضواحي (ينبغي أن نقوم بتحليل مفصل للاستغلالات التي خضعت لها تسليمة نسرين. فحيث ينبغي التمييز والتحليل، يجمعون؛ وحيث ينبغي التوحيد و التجميع، يفرقون.
ألا يُتهم التزام المثقف اليوم بما هو إنساني؟
بما أن الإنساني اليوم مقبول إعلاميا أكثر من المعارك النقدية – من بينها المعارك النقدية ضد الإنساني – الذريعة -، فهو يجتذب «المثقفين» الذين يتطلعون إلى الظهور الإعلامي ويرغبون في ان يكونوا في كل مكان توجد به كاميرات. هنا أيضا، فمن بين المهام الأولى لحركة نقدية حقيقية أن تتزود بإمكانيات الخروج من النزعة الإنسانية للوعي الشقي أو نبوءة الوعي الكوني القديم، المرتبط باتخاذ مواقف «أخلاقية حول القضايا الراهنة الكبرى». بمعنى ما، فأولئك الذين ينكبون على استغلال حالات الضيق الأكثر إثارة أو الذين يُبرزون تركيب الالتزانم المختزل في السخط التخليقي للروح الأوروبية الطيبة ليسوا عديمي الجدوى كلية: يشيرون لنا بما لا ينبغي القيام به. ينبغي العمل في إطار الاستمرارية والتكتم، وهما شرطين للفعالية وللجدية، للعمل بحيث يقال، في وسائل الإعلام نفسها، بمساعدة بعض الصحافيين، ما هو مقصي، اليوم، من وسائل الإعلام أو من المُواء الإعلامي.
لكي ننهي، هل أن الفن المدمِّر بإمكانه أن يكون غير منخرط، يتنضمن مادته الداخلية القابلة للتفجير في تمركزه وفي سره، مثلما يبدو آن مقطع فلاديمير نابوكوف يقوله «في هذا المستوى الرائع من الفن، ليس للأدب طبعا أن يشتغل بشكوى المضطهَدين ولعن المضطهِدين. إنه يستحضر البئر السحرية للروح الإنسانية حيث العوالم الأخرى تعتبر مثل ظلال غير معروفة أو صامتة».
أعتقد أنه علينا أن نُنهي مع أسطورة الالتزام، التي فرضها سارتر على العالم الثقافي. وأنا بعيد كل البعد عن الاعتقاد أنه يمكننا اختزال الفن المدمر في الفن الملتزم. أعتقد أن هناك أشكالا للالتزام تسير بجانب المحافظة بخصوص الأساسي، أقصد في مجال الشكل. قد يكون الالتزام مفيدا كذريعة لكل أشكال النقص، بدء من الامتثال الرسمي، حتى انعدام العمل الفني. و بإمكاني، مثلكم، أن أقدم عددا كبيرا من المثلة على فن «غير منخرط» ومدمر على نحو عميق. ليس نادرا أن الكتاب الذين يقومون بثورة رمزية تهم ما يحمله الأدب، التشكيل أو المسرح مما هو خصوصي أكثر، كان ينظر إليهم كلامبالين أو محافظين حتى، نخبويين في جميع الأحوال. أعتقد في أعماقي، أنه حتى، إذا لم ينشغلوا بأي شكل من الاشكال ب «شكوى المضطهدين أو لعن المضطهدين»، كما يقول باباكوف، فإنهم يكسبون شيئا ما، وليس فقط المنتخبون السعداء، وهم يحطمون الأشكال، التي هي أشكال إدراك وتقدير أوليا، بتقويضهم أو تدميرهم للغات، التي تأسر الفكر دائما في رقابات وروتينات. لا وجود لحريات صغيرة. ولا يعني ذلك القول بأنه ينبغي الخضوع، كما يفعل البعض ذلك بسهولة كبيرة، لكي تكون فتوحات الثورات الرمزية الكبيرة محجوزة للبعض. لكن، للرد بطريقة ملموسة أكثر وسياسية أكثر على السؤال الذي تطرحونه، أُحيلكم على تركيبة البرلمان الدولي للكتاب: هناك كتاب بالإمكان اعتبارهم، بحكم انتمائهم لبرلمان منشغل بالتدخل في القرن، ك «فنانين ملتزمين»، وأعتقد أنه لا يوجد بينهم واحد يمكن أن نقول عنه إنه أنتج فنا ملتزما.
1 – را. «ما جدوى برلمان للكتاب»، «ليبراسيون» 1994/11/31
٭ بخصوص «بؤس العالم» (حوار مع يان سيري)، مجلة مسرح لاباستيا، 6 يناير 1995، ص. 28 – 29
Cosmos – Décembre 1994