ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
نمتدح الوجود بأناشيد حفظناها من قلوب الأمّهات، وهي تردّد مكابدات الكائن على هذه الأرض، وتُرخي أسدال الحيرة على التفكير وتجعل الإنسان مقيما في حضرة الصّمت، محاصرا بأسئلة الكينونة المفتوحة على الغريب والأسطوري في الحكاية، فتحول السّرد إلى ثديٍ ليْليّ نَمْتَصُّ منْه حليب الخيال المغلي تحت نار بطولات وهمية وانتصارات خرافية، حيث يمتزج اليقين بالشكّ، والحقيقة المطلقة بالأوهام النسبية التي تمّ نسجها وفق إرادة الإغراء؛ وإثارة المخاوف في دواخل طفولة تعتاش يوميا من فتات حكايات بائتة وصدئة ، الأمر الذي يفرض على الكينونة اختيار طريق العزلة في زوايا أكواخ تنعم في سرابية الحياة وسراديبها الأبدية، فكانت العزلة الكتاب الأول الذي تصفحنا أوراقه برغبة الترغيب والترهيب الممارس علينا نحن جيل السبعينيات،جيل الخيبات والانكسارات، ولعلّ في هذا كلّه صناعة أجيال يسكنها الخوف بدل مناوشة الواقع والوجود بالسؤال والاختلاف، وتمرين قهريّ لقبول ما سيأتي من بعد من ارتكاسات وانهيارات في العقل والحداثة والديمقراطية …
هكذا ظلت ذاكرة البدايات تشكّل الكينونة متعلّقة بهذا المصير المرسوم مسبقاً على يَدِ ترسانة ثقافة مجتمعية تكرّس منطق الشيخ والمريد، بعبارة أوضح التبعية المميتة لكل عقل والمقوضة لكلّ الرهانات القادمة، والحكايات التي ذهبت مع عبور النّهر مازالت غارقة في أعماق الجسد محفورة كوشم خولة طرفة بن العبد، مُؤسّسَة بذلك احتراقا أبديا مازال إلى اللحظة رهين هذه العزلة المفروضة على الكائن المغلول بحجر صحيّ، وهو في جوهره حجر غير صحيّ، والدّاعي لقول هذا نسب الحالات المرضية في صفوف ساكنة العالَم، والقهر النفسي الذي يمارَس عليها بدعوى فيروس لامرئيّ مجهول الشّجرة وبلا هوية.
فالتّجوّل لم يعُد مضمونا في هذه القفار العظيمة اللاجدوى، حيث العبور محفوف بمتاريس نظام عالمي قديم بقفازات حديدية جديدة، تبدو على السطح ليّنة رقيقة، ولكنّها في الحقيقة قاهرة تثوي العبث بشساعته المفهومية والدلالية، ذلك أن حياة الكائن مصابة بفقدان الأمل في الحاضر والمستقبل، فبدأنا نعاين انهيار سلط الحرية والتّنقّل والعدالة والمساواة أمام فظاعة التسلّط والتّحكّم في الرقاب والظلال والأنفاس، ولم تعد الأمور كما كانت مرسومة من قبْل، وهذا سيفضي إلى خلْق عالَم استبدادي، تدير شؤونه عصابة عالمية؛ همّها الأساس تأسيس ميثاق دولي جديد جوهره العبودية الجديدة.
مِنْ هُنا فُرِضَ على الذات حصار حوّل الحياة إلى سجن بِقُضْبَانٍ من استبداد وتحكّم في المصائر، وجعل البيوت تعشش فيها أرواح ميّتة وأجساد فارغة من معنى الحياة، لتتغيّر العلاقات الإنسانية وتُصاب بأنفلوانزا التباعد وعدم الاختلاط والاحتراز من الآخر حتى وإن كان ينتمي إلى شجرة العائلة نفسها، لتعيش البشرية أحلك عام من الألفية الثالثة، التي لم تحمل للإنسان غيْر العيش في بحبوحة اليأس والحسرة ، بعد أن طرد كوفيد 19 الفرح من النوافذ والشرفات، من البيوت والأكواخ والعمارات، من المسارح ودور الثقافة والفن، من الشوارع والمقاهي والمطاعم، والأكثر من هذا شرَعت جحيما نفسيا قاهرا لأجساد وعقول تؤمن بالتحليق في سماوات الحياة الفسيحة، ضاقت الطرقات وحوصرت بترسانة الأمن والشرطة والقوات المساعدة، لا شيء يعلو فوق صوت صفارات الإنذار المنذرة بإغلاق منابع الحياة، فنلوذ هاربين من شراسة فيروس لا يتجول إلا ليلا ولا يكشّر عن أنيابه إلا بعد اغتيال الشمس وبروز شيطان الليل الذي يوزّع الدّاء بلاهوداة، وتلك قصة أخرى.
في عام العزلة تغيّرت أشياء وأشياء، وساد حجر مفتوح على كل الاحتمالات والتكهنات، وغابت عن النّفوس غيمات الجلسات على طاولات المقاهي التي توزّع فيها كؤوس المحبة، ضاقت الأرواح بين جدران باردة وغرف تنتشر فيها الرتابة بشكل فظيع، وبدأت ملامح ألفية ثالثة مشوهة الخَلْق والخُلُق، شمطاء رعناء يكتسحها طوفان كوفيد 19 لا يرحم ولا يترك مجالا للفرح والجمال.
في عام العزلة فقدتُ الكثير من العادات الحميدة، إذ ليس من طبعي وسِمْتي الإقامة في البيت طويلا، لحساسيتي المفرطة من ذلك، فأنا كائن جماعي أنفر من إيديولوجيا الانعزال والوحدة، وأنبذ كل من يكرسها في حياتها، وأحبّ معانقة الأرواح والقلوب التي أتقاسم معها كأس الحياة في مقهى 33 المحاذية لشارع الحسن الثاني، حيث كانت الشلّة الكريمة التي تقاسمني وجودي، تلعن تفاهات العالَم وضحالة القيم وانهيارها، لأعانق معها العالَم بضحكات مجلجلة وأحاديث مترامية الأطراف بعيدا عن منغصات الحياة، أغلقت مقهى 33 حزينة وكئيبة ، تاركة أصصها تذبل يوما بعد يوم، والظلال التي كانت تراودها لاذت بحيطان فارغة من الموسيقى والأعراس واللعب.
في عام العزلة حوّلت وجهتي صوب حياة أخرى ملؤها كتبٌ نسيتها نائمة على الرفوف ردحاً من الزمن، لأوقظها من نومها وأسافر معها لتأثيث البيت الصغير بحياة المعنى والحب السرمدي والقيم النبيلة، فكانت لي رحلات إلى عوالم مشيّدة بجموح الخيال ولغة تجنح صوب الشاذّ والمدهش والمغري والفاتن، فجغرافيا الكتب لا خرائط لها هي ممتدة في اللانهائي، حيث الجمال يستوطن الأعماق ويطرّز الأقاصي الباطنية، فكونت عشيرة من حلفائي الكتاب والشعراء والنقاد من كل الأمصار والأقطار، أصافيها فتصافيني، أصادقها فتصادقني، أراودها فتلبي نداء القلب والروح، وبها خفّفت عن الذات قساوة الاعتقال القسري المفروض عليّ بعِلّة الفيروس اللعين.
فِي عَامِ الْعُزْلَةِ، حيثُ الْفراغُ سَيِّدُ الْوُجُودِ:
« أُرَبِّي السَّفِينَة عَلَى إِيقَاع السُّخْرِيةِ / لاَ أَتْبَاعَ لِي / وَحِيدٌ / حُشُودِي خَيَالٌ وَأَبَجَدِيَّةٌ / وَعُزْلَتِي كِتَابٌ مُشْرَعٌ عَلَى الطُّوفَانِ/ عَلَى حَنِينٍ يَصْهَلُ فِي وَجْهِ الْحَاضِرِ / وَعَلَى حَيَاةٍ نَاقِصَةِ الْمُسْتَقْبَلِ / فَمِنْ هُنَا عَبَرَ الْأَنْبِيَاءُ قَبَلِي / الْحَضَارَاتُ مُثْقَلَةً بِمَكْرِ التَّارِيخِ / بِتَوَابِيتِ الشُّهَدَاءِ وَهِي تُضِيءُ لِي طَرِيقَ الْبَحْرَ/ لَا عَصَا لَدَيَّ كَيْ أَهُشَّ بِهَا عَلَى لَعْنَةِ الدَّاءِ / وَلا نَاقَةَ لِي / وَلَسْتُ صَاحِبَ الْأَيْكَةِ / وَلَا صَاحِبَ الْحُوتِ / وَلَا أَمِيناً وَلَا رَاعِيَ الْغَنَمِ / أَنَا فَقَطْ عَابِرُ حَيَاةٍ نِكَايَةً فِي الْعِلَّة…».