صادق جلال العظم: ابن رشد أنتج فلسفة رغم أنه عاش في مرحلة مضطربة

يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين
وفقهاء الظلام.

 

n هل تعتقد أن الولايات المتحدة الاميركية، وبعد سقوط منافسها الاتحاد السوفييتي، قد قامت بخلق عدوّ جديد لها هو الإسلام؟ هل حلَّ ما أدعوهُ” سباق التدين” في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مكان سباق التسلح الذي كان سائداً في مرحلة الحرب الباردة بحيث يواجَهُ الديني بالديني؟

pp أولاً، أجد فكرة اختراع العدو فكرة تبسيطية وحتى ساذجة. فماذا يعني أنهم اخترعوا عدوّاً؟ هناك عالم إسلامي كبير وله مصالح مُتضاربة مع أميركا وقد هاجمها البعض باسمه وباسم الإسلام في عقر دارها في 11سبتمبر2001، والإسلاميون اعتبروا ذلك معركة شبيهة بغزوات بدر وأُحُد وغيرها وأعلنوا فكرة الجهاد العالمي فردّ عليهم الأميركيون والغرب بنفس الطريقة وذات اللهجة. وعلى أيّ حال لا يمكن الركون إلى الخطابات المُستخدمة من قِبَل هذا الطرف أو ذاك. لا يخدعني منظر مواجهة الديني بالديني كما تقترح. وراء المواجهة إرادات قوة ومصالح حيوية وهذا هو الأهم.

n كيف ينظر العظم إلى مستقبل الفلسفة النقدية العقلانية في العالم العربي الذي أخذ يكفهر بحجب السلفية وينزلق إلى ليل الأديان؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل في عصر الإرهاب؟ ثم هل تستطيع الفلسفة أن تنشأ في بلادٍ مضطربة في حالة حربٍ دائمة؟ ألم تزدهر الفلسفة في أثينا المستقرة ولم تعرف لها طريقاً في إسبارطة المُقاتلة؟

pp لا أرى هناك رابطاً دائماً بين ازدهار الفلسفة وبين فترات الاستقرار أو الاضطراب. فكثيراً ما ازدهرت الفلسفة في فترات مضطربة وقلقة أو أحياناً كانت تخبو وتنام في مراحل ازدهار اجتماعي وحضاري. في مراجعة سريعة لتاريخ الفلسفة لا أجد أمثلة على مثل تلك العلاقة التي تفترضُها ولا يوجد تلازم مُنتظم بين صعود وانحدار الفلسفة أو هدوء واضطراب عصرها.
لا شك أن هناك فترات استقرار لم تُنتج فيها فلسفات، ولكن استقرار المجتمع، برأيي، شرط أساسي لازدهارها. هناك رأي مهم لنيتشه في هذا الصدد. ففي كتابه الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، يشير إلى أن الرومان قد عاشوا عصرهم الذهبي بدون فلسفة، ولكنه يؤكّد من جهة أخرى أن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر إلا عند الشعوب المُعافاة.
ابن رشد مثلاً عاش في مرحلة مضطربة جداً، ولكنه أنتج فلسفة.

n سؤال أخير اذا سمحت: لم يترك لنا صقر أبو فخر بعد حواره البلا ضفاف مع العظم شيئاً كثيراً لنسأله، ولكن بعد هذه الرحلة الأوديسيّة التي حارب فيها عوليس/ العظم الوحوش الخرافية وغضب الآلهة وتنقل فيها عبر كل بحار العالم وعرف في رحلته نساء كاليبسو، هل عرف هذا البحّار أخيراً الطريق إلى أحضان بينلوب وإلى دروب إيثاكا؟ وما أقصده هنا هل لا زال الحب عندكَ هو تقاطع خطوط الحياة المتوازية ومفارقة الاشتداد والامتداد؟ وماذا عن الوطن؟ هل يقيم العظم في حقيبة سفره؟ ألا تتفق معي أن إيثاكا لم تكن وطن عوليس بقدر ما كان الرحيل الدائم بحثاً عن الوطن؟

pp ذكّرتني بقصيدة خليل حاوي «البحّار والدرويش «. كان خليل حاوي أحد أساتذتي في الجامعة الأميركية في بيروت. في قصيدته تلك يظل الدرويش قابعاً في مكانه ويلتقي على بابه لله والدهر السحيق فيما البحّار هو فاوست العصر الحديث وربما كل العصور. أنت تعرف أني مقيم في الوطن (دمشق و بيروت). أسافر وأبحر كثيراً ولكنني أعود. لذلك ليس لدي إيثاكا تنتظرني، وإذا استخدمتُ تعبير فرويد أقول أيضاً لا أريد بالتأكيد العودة إلى الرحم الأول حيث السكينة والسلام. ليس هذا هدفي أو ما أطمح إليه أو أريده. لذا لا «أحنّ إلى خبز أمي» لأنني قطعت حبل السرة منذ زمن طويل كما قتلت آباء السماء والأرض جميعاً في داخلي لحظة الرشد والنضج والرجولة والاستقلال. ما يهمني هو الإسهام في الثقافة المعاصرة وبخاصة الثقافة العربية التي أريد لها أن تكون ثقافة حية، ثقافة تجدّد نفسها وتعيد قراءة ماضيها وتستشرف المستقبل وتحمل العلم الحديث والفكر الفلسفي الذي نجم عنه على محمل الجدّ وتقيم وزناً للعقل النقدي والبحثي وللتقدم أيضاً. هذه هي إيثاكا بالنسبة لي. إذا لم تحصل في العالم العربي محاولة قوية وسريعة وجادة لإنتاج معرفة علمية في العلوم الأساسية وتفرعاتها، فسيكون من الصعب على الثقافة العربية في القرن الواحد والعشرين أن تكون فاعلة حقاً أو مؤثّرة ومُشعّة إلى خارج محيطها الضيق وأن تكون مُحترمة من الثقافات الأخرى التي تجد مركز قوتها في إنتاج المعرفة العلمية. إن ما أقصده هنا هي العلوم الأساسية والعلوم الدقيقة وليس فقط العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع والأدب. ولا بد أنك تلاحظ أن هذا الرأي مرتبط ببعض الأطروحات التي كنتُ قد قدمتها في كتابي “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، أي مركزية الثورة العلمية في القرن السابع عشر وما نتج عنها من إعادة الفلسفة ترتيب نفسها وقراءة نفسها على ضوء النتائج التي جاءت بها تلك الثورة. وبما أن العالم الإسلامي ومعه العالم العربي لم ينتجا أية معرفة علمية تذكر منذ قرون فإن احتمالات تجاوز الظلامية أو فتح مستقبل مقبول لثقافة نقدية أو عقلانية عربية مُشعّة تصبح أضعف بكثير مما نعتقد. واضح من أسئلتك الفاحصة أنك أنت أيضاً تقوم بإعادة قراءة تجربتك الماضية نقدياً وبتصفية حساباتك مع وعيك السابق ومع قسم الفلسفة في جامعة دمشق ومع أساتذتك هناك بما فيهم صادق العظم، وهذا شيء جميل ومتقدم ودليل نضج وأنا أقدره كثيراً وأدعو إلى المزيد منه، لأنه بلا عمليات المراجعة هذه لا يوجد تقدم فكري أو تراكم معرفي أو ثراء ثقافي، بل مجرد إعادة و تكرار واجترار.
أما بالنسبة إلى الجانب الآخر من سؤالك أعتقد أنك تدرك تماماً أن حياة البعد الواحد ليست لي أو للبحّار، وبلا نساء كاليبسو تشحب الأبعاد الأخرى كلها وتضمر، كما أن التعامل مع مفارقة الاشتداد و الامتداد هو بمعنى ما تجربة العمر على هذا المستوى بحلوها ومرِّها بوهجها وخيباتها بعد تقاطع خطوط الحياة المتوازية وقبلها –إنها الحياة.

n هل تريد أن تقول كلمة أخيرة عن الحُب؟ هل لديك شيء تضيفه لما قلته في السابق عن هذا الموضوع؟

pp ما زلتُ أتمتع به رغم تقدّمي في السن. من يعرف الحب لا يحتاج أن يقرأ عنه مع أن القراءة ستزيده ثراء وعمقاً، أما من لا يعرفه فلن تساعده قراءات الدنيا كلها.


الكاتب : حاوره: خلدون النبواني

  

بتاريخ : 12/05/2021