من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي – 24 – الرسالة 27: «عيني» تحبني أكثر من أي شيء!

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة» حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

عبد الكبير،
كان لرسالتك الأخيرة، وقع رائع من الجمال، والشعر، وحب الآخرين.
انقطعت عن القراءة منذ ثلاثة أشهر وهذا خصاص، وبتر عميق يسلب مني وجودي الثمين. لا أقرأ كتبا، ولا أعمالا علمية، ولا جرائد، ولا حروفا تأتي بها الطباعة.
وأكثر من هذا أتلفت رصيدا وثائقيا، استثنائيا قديما ودالا، وكل ماضي الشخصي الفوتوغرافي.
أعيش رفقة أربعة قصائد تلازمي باستمرار، A Villequier (التأملات) لفيكتور هوجو، Adieu لـ»إيريز بيتون» Erez Biton، La prière de l’enfant لـ»مارتن غراي» Martin Gray، ونص آخر مدهش، تتداخل فيه الفلسفة، والشعر، والميتافيزيقا وتفسير العالم (ستيغ داغرمان Stig Dagerman): «من المستحيل إشباع حاجتنا إلى العزاء».
فليس لي غير هذه النصوص، ترافقني في منحدر نحو الجحيم. لم تكن عزاء، ولا ألما أعذب به نفسي masochiste وأنا متلذذة، ولا سلاحا ضد الجنون والموت.
أنا في خضم هذه التجارب الأكثر مأساوية، إذا صح هذا. متشظية، وهي الشظايا منثورة في كل الاتجاهات؛ منزوعة الدماغ، دماغي يجري على عيني المتفجرتين، وعلى أذني الملتصقتين به؛ مفككة؛ لأن ذراتي في انشطار، ولا شيء بمقدوره، إعادة تجميعها.
أنت برفقتي، داخل خطاب أعمى على مستويين. كلماتك تلامسني، على جلد منزوع، تعطلت حساسيته. وأسمعها في ممر أسود في أعماقي، لا يكاد يصل إلى قلبي وعقلي.

صديقي،
لم أكن أعرف أبدا، أن المعاناة بإمكانها أن تكون كذلك، بمثل هذه الفاجعة، وهذا الفتك. لم ينزع مني قط، أي نص كثيرا من الدموع، ومن مكونات الجسد. ربما فرنسيس بيكون وهومن لا أقدر أن أكلمك عنه؛ لأن عنف إحساسي، سيعمل على أن أمزق هذه السطور القليلة.
أكتب إليك أيضا دون معرفة الدافع إلى ذلك! أنت تظل مثل الفراش الذي يلتمع خاطفا في darkness، أفضل كلمة للتعبير عن العتمة.
أنا المسكينة، صديقتك المنفجرة غضبا. شظاياي منثورة في الجهات الأربع من العالم. ماذا أقول لك؟ اصغ إلي، أدرك ما أقول قبل أن تسمعني، أو تقرأ لي… ملتحمات conjonctives عيني منثورة بالرمل، عروق أجفاني على وشك الانقطاع، يخفق قلبي في حلقي، يكاد أن يتحول أيضا إلى شظية بدنية، أرمي به أخيرا، مزيحة عني، هذه الكتلة النابضة القابضة على الحياة.
صديقي،
انتهى أمري: اقتناعي بنهاية العالم هو طرف من هيئة جزيئاتي. نفس تعيسة مصممة على العيش، فيما وراء المعنى. ألم ينخر قاعا شبيها بقاع اليأس المسطح.
لله لا يحبني، إلى حد أنه تركني محرومة مقموعة، من وجودي.
أنه واجب إزاء الخلود، إذا كانت الروح خالدة، وإزاء القوام، إذا كان علينا لطمه دون توقف، دليل دامغ على حقيقة أمره.
ذهبت إلى إسرائيل وسأحدثك عن هذا مستقبلا، إذا استقر بعض من شاطئ السلام في نفسي، بضع ثوان: سعيت إلى تغييرهم، إلى حد إدراك المعاني الممكنة للسلام…

صديقي،
أخترق الزمن، نحو هذه الحقول الفردوسية، حيث تنتظرني «عيني»(ابنة الكاتبة) في الممكن والمحتمل، في اليقين والتفكر. أسمعها فقط تناديني: «ماما»! أحظى ببريق أخضر من عينيها، مبتهج بتباشير نهاية أسبوع.
وأنا اليوم في ملاحقة، سأطوف بأبواب الثانويات، ليلا، ونهارا، منتظرة الآلف l’Elfe ذات اليدين الناعمتين. ستعرف أنت، أنني سأقضي ما تبقى من الحياة مجلجلة في وجه العالم جلجلة غير مسبوقة، أم لم تعد تحب ابنتها «عيني» واستحضر «سيفينيي» Sérvigné ورسائلها الوفيرة إلى Grignan «غرينيان» هذه التي لربما لم تكن تحبها كثيرا.
لكن، «عيني» تحبني أكثر من أي شيء!


الكاتب : غيثة الخياط ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 12/05/2021