للوردةِ الحمراءِ عيدٌ، ولها تاريخٌ تلي
أحمد المديني
إنك تحار في حضرة الوردة،
هل تبدأ من خدّها فتلثمُها،
أم تدنو منها حييا فتشمُّها،
إنها غانية تتغنّج وأنت تحار
الورد تمسك عاد من ساقها،
ام تُعلّقها على عُروة الزمان؟
نعم، يحدث أن الوردة تذبل، وهذا قانون الطبيعة ودورة الفصول، سبحان من لا يزول، ولكنها يوما تعود، فيفغَم شذاها ويذيع، ولنا دوما زاد الطريق، ذكرى تعبق في الأركان لا تضيع، طائر الفينيق يولد من رماده، مثله الوردة، ضوّعَت أو ذبلت، لا بأس، شمس تشرق من أفول.
هذا أول الكلام، قبل أن أصل إلى ما كان وقتها يُعد من قبيل المحال، أي قبل أربعين عاما خلت، وكنا نحن الاشتراكيين في الضفتين مشبعين بالأحلام والأوهام ونسبح في بحر الآمال. وصلت إلى فرنسا في توقيت كان الزمن اليساري فيه عاتي الموج، واليسار، أي الحزب الاشتراكي، خاصة، وفي ركابه الحزب الشيوعي، يستعد للانقضاض على الحكم بعد نضال مديد وطول انتظار. في سنة 1971 أعيد تأسيس الحزب بصورته الجديدة التي وحدت الاشتراكيين في مؤتمر (أبيناي 11 ـ 13 يوليوز) وانتخب فرنسوا متيران أمينا عاما خلفا لألان سفاري، ومن يومها أصبح تحصيل حاصل المرشح شبه الرسمي للحزب ووراءه يصطف الفريق المساند له على رأسه بيير موروا. شنّ هذا الفريق زحفه الأول على قصر الإليزي في رئاسيات 1974 فاز فيها يمين الوسط جيسكار دستانغ في الجولة الثانية بأغلبية محدودة جدا(50،81)، وخسر خصمه لأنه كان يفتقر يومئذ إلى برنامج سياسي واقتصادي قادر على الإطاحة بالحصن اليميني الراسخ. ولم يَفتّ هذا في عضده، واستجمع الاشتراكيون قوتهم ونظموا صفوفهم، وأعدوا خصوصا البرنامج المقنع، الذي أوصل هذا السياسي المعمّر والمجرّب لحقب وعرة في السياسة الفرنسية، من مرحلة المقاومة مروراً بالخمسينيات تقلّد خلالها مناصب وزارية هامة (منها العدل والداخلية) وصولا إلى فوزه بالمنصب الرئاسي(10 مايو 1981) متغلبا هذه المرة على جيسكار(بنسبة 51،76) وهذه هي النسب الطبيعية والمعقولة في الأنظمة الديموقراطية، لا الأتوقراطية الخرقاءـ بخبرة وحنكة ودهاء وثقافة موسوعية، وقدرة على المناورة ضد الخصوم وحتى أقرب الحلفاء(إقصاؤه لغريمه الأول مشيل روكار (1930ـ2016) الذي جسد اليسار الثاني منذ مؤتمر ميتز الشهيرـ وعلى لسانه دائما عملته الذهبية، كلمة صغيرة جامعة هي la persévérance الدأب والمواظبة والمثابرة ومعناها عناد السياسي المؤمن بمذهبه وقضيته بلا كلل ولا ملل، والذي إذا كبا يستأنف الطريق ويعرف كيف يلُمّ الشتات ويؤلف الكتل ويحاور الحلفاء ويملك قدرة التنظيم ويترك التدبير للخبراء المساعدين، ويكون مفعماً بروح وثّابة متخلِّلاً شغاف أمة، وقارة (أوروبا) وأبعد منها ذا نظرة استراتيجية تسع العالم، لذلك حين دخل إلى الإليزي أجلس فرنسا على عرش العالم.
مثل هذا مبذولٌ في سجلات السياسة، أهمّ منه ما عشناه يوم العاشر من مايو فرنسيين وعربا مشتعلين أشواقنا الهوجاء وأحلامنا الشاسعة حطبها وضرامها. لا أذكر كم كتبت عن هذه الذكرى ويمحوها صلصال الأيام، وكلما حضر شهر مايو تضرم نارا في هشيم ما راح من العمر ويمتنع عن الزوال، وبحلول العاشر من هذا الشهر فنحن نعانق الذكرى الأربعين لأجمل يوم عشته في حياتي حتى ذلك الحين، مع شعب كان متعطشا للتغيير ولا أظن في مسيرات ومظاهرات وحشود كنت فيها، أني عشت مثله، ولا بهجة طافحة أشركت الليل بالنهار في ذهول وهذيان، كان معقولا أن يسرح فيها الفرنسيون، فهم أولا المعنيون بمصير بلادهم، فصرنا لهم حلفا نصيرا منافسين. سألمّ بعض الخيوط فقط، أذكر قبل ثلاثة أيام من انتخابات الرئاسة وصل من الدار البيضاء صديقنا المرحوم المناضل الصميم مصطفى القرشاوي، وهو يومئذ رئيس تحرير المأسوف على زمنها المجيد جريدة (المحرر)،خصيصا ليتابع الحدث، لم أر أبا زهير ملء القلق والتوجس كما في تلك الأيام، وتحديدا الساعات التي سبقت إعلان نتائج الدورة الثانية، (جرت الدورة الأولى في 26 أبريل) نستيقظ وننام على الأخبار ونتصل بالأصدقاء ونتشاور ونتبادل التوقعات أشبه بخلية إضافية لمركز الحزب الاشتراكي في زنقة سولفرينو بالدائرة السابعة، كنا في مركب واحد وهم حلفاؤنا، وإن هي إلا سويعات في يوم الأحد المضيء ذاك حتى تماهينا وحلّ الواحد منا في الآخر.
أقواها في ذاكرتي أربعة أوقات: الوقت الأول: مصطفى، وكرستين زميلتي في الجامعة، وأنا، في الساعة السابعة و55 دقيقة مساء، عيوننا ملصقة بشاشة التلفاز سيظهر فيها بعد خمس دقائق صورة المرشح الفائز، وظهوره يتم بإخراج، تتشكل برسم خطوط متتالية متوازية منها تدريجيا تتحدد صورة الرئيس بدءا من الجبهة ثم انحدارا إلى الأنف فالوجنتين، وأخيرا يكمل بالذقن، وها هو بورتري متيران اكتمل، وها نحن ثلاثتنا في الصالون أحضانا في حضن واحد، وعمارتنا التي في حي هادئ اهتز بنيانها بالهتاف عن قرب ومن المدى أتى الصدى. الوقت الثاني: بعد ربع ساعة هجموا كالسيل العرم، شباب الاتحاد الاشتراكي أساتذة في باريس وطلابا باحثين يقودهم زعيم النضال في المنافي وقتئذ الراحل محمد آيت قدور بمعية خالد عليوة يحمل اللواء، لا يتسع وجهاهما للحبور ولا الصدور للفرح ونحن نتبادل نخب النصر بأحر العناق. الوقت الثالث: غادرنا شقتي موكبا مزهوّا بالنصر، أذكر كنا ثمانية في سيارتي تسع بصعوبة خمسة والباقون ذهبوا مشيا وسبقونا للوصول إلى ساحة الباستيل ربما هكذا يوصف يوم الحشر إذ المنافذ إليها سُدّت بالسيارات وحشود الراجلين بلا حدود، وفي الساحة اجتمع القاصي والداني، الهتاف بجميع اللغات، الفرنسية إحداها فقط، فكل الأعراق هنا والجنسيات، وهات يا أنخاب وكاسات؛ كان أبناء الشعوب المحرومة مهضومة الحقوق في مقدمة الصفوف يقتصون بحظ ليلة نصر الاشتراكيين من ألف عام من الاضطهاد، كنا نحن العرب منهم، ويا للحسرة ما نزال. وقت رابع: يوم 21 مايو تنصيب متيران، أقف في زقاق سوفلو لأراه يصعد بكبرياء إلى البانتيون (مقبرة العظماء) باليمنى يحمل وردة حمراء سيضعها على قبر جان جوريس، فيما الجوق السمفوني بقيادة المايسترو دنييل برامباوم يعزف (L’Hymne à la joie) لبتهوفن، معها بأجنحة الملائكة كنا نصعد من الفرح إلى السماء، نحن الذين حول القبة الباهرة، سيدة مسنة إلى جانبي تكفكف الدمع أسمعها تهمهم كالدعاء: انتظرت ثلاثين حولا يا بني كي أعيش هذه اللحظة، قلت هذا هو إيمان المناضل والوفاء،،، ثم ودعت القرشاوي في أورلي بقلب خافق وفي نفسينا أعمق الرجاء،،، والآن في عيني بكاء!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 12/05/2021