عام من العزلة 27- نور الدين محقق: محاولة مستمرة لترويض الوقت

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

حين جاء هذا الوباء اللعين كان لابد من الوقاية منه بأي ثمن. هكذا فُرض الحجر الصحي. وهكذا فُرضت علينا، وذلك للضرورة، العزلة. تلك العُزلة التي كانت محبوبة في الأيام العادية السابقة قد أصبحت بطيئة المرور في فترة الحجر الصحي، كليل الشاعر العربي القديم النابغة الذبياني. كل يوم كان يمر علينا كان يشكل يوما ثقيل الظل. وكان الالتزام بكل الشروط الوقائية من هذا الداء ضروريا وقد التزمتُ بها كما التزم بها أفراد أسرتي. هكذا عدتُ إلى مكتبتي ورافقتُ كتبي من جديد، واتخذتُ من غرفة المكتبة مكانا أساسيا لي، بالرغم من زيارتي لها من قبل، باستمرار والجلوس فيها من حين لآخر بشكل يومي. هكذا فكرتُ في إعادة ترتيب المكتبة، وهكذا أعدتُ بالفعل عملية ترتيبها بشكل جديد أرضاني عنها وعن المنظر الجديد الذي أصبحت عليه. وقد اخترتُ منها وأنا أعيد ترتيبها كتبا لم يسبق لي أن قرأتها من قبل، فالوقت لم يكن يسمح لي بذلك، حيث الالتزامات المهنية والأسرية حاضرة باستمرار ولها الأسبقية دائما طبعا. فأنا أعتبر نفسي قارئا وكاتبا في يوم الآحاد والعطل ليس إلا. أعتبر نفسي رغم قراءاتي العديدة، مجرد قارئ هاو وأعتبر نفسي رغم ما أصدرته من كتب، مجرد كاتب غير محترف لمهنة الكتابة على عكس بعض الكتاب العالميين المعروفين الذين يعتبرون الكتابة مهنتهم الأساسية، وهي بالفعل كذلك بالنسبة لهم.
هكذا سكنتُ المكتبة وسكنتني بشكل يومي، وهكذا عشتُ في هذا الفردوس الكوني حسب تعبير الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، أقرأ الكتب وأكتشف عوالمها المتجددة بشكل سحري لانهائي، وهكذا شكل لي كل كتاب منها خير جليس في ظل هذه الأيام الصعبة. وهكذا أنشأتُ أيضا كي أتخلص من فعل مرور الوقت، قناة ثقافية على اليوتوب، قدمتُ فيها بعض أهم الكتاب العالميين، الغربيين منهم والعرب المعروفين بشكل عالمي. وقد أسميتها « آداب وفنون»، وتمت عملية إخراجها من لدن المخرج السينمائي المغربي فيصل الحليمي.
وقد سمحت لي فترة العزلة الإجبارية هاته بكتابة رواية عن هذا الوباء اللعين، كانت هي أول رواية عربية تُكتب عنه حسب ظني، وقد نُشرت متسلسلة في جريدة «المساء» المغربية. وقد اخترتُ لها عنوان «2020: الحياة في زمن الموت». بعد ذلك ومع زوال فترة الحجر الصحي الشامل والإبقاء على حالة الطوارئ الصحية والإجراءات الصحية الوقائية المرتبطة بها، استفدتُ كثيرا من الفترة المسائية، ونظمتها بشكل دقيق جعلني أحولها إلى عادة جديدة، أجلسُ فيها في البيت، وبعد الانتهاء من واجباتي المهنية والأسرية، أداوم على القراءة ومشاهدة الأفلام، والكتابة من حين لآخر. هكذا كانت هذه الفترة من الحياة تشكل وعيا جديدا لنا، وتعيد تشكيل نظرتنا إلى الوجود، فما كان يبدو بسيطا وعاديا في ما قبل هذا الوباء اللعين، أصبح مع وجوده، يشكل أمنية لكل واحد منا حسب ميولاته السابقة التي كان مُعتادا عليها. أصبح الحنين إلى لقاء الأصدقاء والحديث معهم في المقهى رغبة مشتهاة، وأصبحت زيارة الأقارب سعادة منتظرة.
على نفس هذه الوتيرة مضت الحياة في هذه العزلة، وهي عُزلة تختلف عن عزلة الكاتب العالمي غابرييل غارثيا ماركيز، بالرغم من حضور رواياته ضمن الروايات التي أعدتُ قراءتها من جديد في هذه الفترة، مثل رائعته «مائة عام من العزلة» و»الحب في زمن الكوليرا»، وهو عنوان أثر بشكل كبير في الكتابات التي كُتبت حول هذا الوباء، إلى حدود أن تم استبدال داء «الكوليرا» في عنوان هذه الرواية بداء «الكورونا» في هذه الكتابات، وتم الحديث عن «الحب في زمن الكورونا»، وهي عملية تناصية قوية ودالة. كما أعدتُ قراءة رواية الكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامي، التي تتحدث عن وباء «الطاعون»، وهي رواية جعلت من اسم هذا الداء نفسه عنوانا لها.
حضرت أيضا مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الفترة وشكل الفايسبوك بالنسبة لي فرصة ذهبية للقاء الأصدقاء افتراضيا وبشكل يومي تقريبا، والتعرف على إنتاجاتهم الثقافية بشكل عام، كما شكل لي كذلك وسيلة لنشر كتاباتي الثقافية بشكل منتظم، في صفحتي فيه واطلاع الأصدقاء عليها وقراءة تعليقاتهم حولها.
هكذا عشتُ في خضم الكتب التي شكلت لي متنفسا، واعتبرتها فردوسا كونيا جعلني أرحل معها إلى مختلف الأماكن العالمية التي لا حدود لها، ذلك أن الكتب تقدم لقارئها، وذلك عبر عوالمها التخييلية، سفرا افتراضيا عميقا وممتعا ومفيدا في الوقت نفسه. وقد قدم الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس نصيحة هامة للقراء في هذا الصدد، حيث يقول لهم بشكل مباشر ما يلي: «لا تقرأوا أي كتاب لأنه مشهور أو حديث أو قديم، يجب أن تكون القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة، اقرأوا من أجل متعتكم ولأجل أن تسعدوا.» وقد فعلتُ بنصيحته هاته، وتحديدا في هذه الفترة، المائة يوم من العزلة، فقرأتُ الكتب التي أعجبتني ولم أقترب من تلك التي لم أكن أجد ذاتي فيها.
ومع ذلك تبقى الحياة في ظل هذا الوباء صعبة. نرجو أن يزول هذا الوباء ويذهب إلى غير رجعة، وأن تعود الحياة إلى سابق عهدها.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 18/05/2021