دعوة لمظاهرة ضد لا أحد، وفي رأسي، فقط !

أحمد المديني

 

أبدأ، فأذكر بأني منذ عهد بعيد وأنا أمشي على رأسي، وهذا واحد من بين أسباب في عدم توافقي، شبه التام، مع نفسي وكثير من الأنام. لست وحدي في هذا المسلك، لم يعد شاذاًّ، صرنا عدداً غفيراً نفكر بالمقلوب، وينبغي الإقرار بهذه الحقيقة الصعقاء كي يطمئن ساستنا ومحيطنا أنهم وحدهم على صواب، ويملكون كل الحق والذرائع ليفكروا ويقرروا بالنيابةً عنا. دخلنا هذا النفق، وهو كذلك، الآخرون الأعلون وحدهم يمشون فوق تحت الشمس وفي العراء، قبل أن يدخلونا في سراديبهم ويتداولوا أجسادنا مثل دُمى قابلة للكسر والتفكيك، وبعد عقود انتبهوا أن كسر العظام لا يكفي، لم يفلحوا مع الرؤوس، ولا غَشَوا القلوب ظلت تنبض دُقُّدُقّ، من هنا جاءتهم فكرة المزاد، علني وسري، فوزعت الغنيمة والأسهم، ونبينا عليه السلام.
لكن الحال طال، لحد سقطت معه العبارة السائرة( دوام الحال من المحال)، ويتبين أن المُحال الحقيقي هو كيف أن رؤوسا خشنة وألسنة سليطة وقامات نحيلة كالظلال تعاند في أن تطول المُحال، وسواها لم يَعْيَ من تلفيق الكلام، عندها لكل عَصيٍّ لا يقبل الضيمَ فطام، وإمّا وبال.
وماذا بأيدينا الآن من حصاد؟ الذي يسأل كاتب، يزعم أن في وعيه بعض ضمير شعب وانتماء إلى عقيدة وأمة. وهل بإمكان كاتب أن يوجد ويكتب بدون أن يتوفر على هذا الوعي الكلّي بحصيلة الزمن الذي في قلبه الإنسانُ وتجربتُه الشاملة. لذلك أقول لا يكفي أن نروي الحكايات ونراكم السرود والكتابات إذا كنا لا نعرف ونفهم لماذا ولمن ونحو أي أفق نمضي بها بنا غداً. لا تقلقني الخسارات والخيبات، ولست محترف حنين لأي مجد ولا لوك حسرات، المزعج هو التكرار البليد وركاكة الوجوه والكلام عوض أن يصطبغ بالحياء تراه يصطفق بصلف الذكاء.
هل أقول إننا وصلنا اليوم إلى القاع، أم كابرنا وخاتلنا أنفسنا وتحايلنا طويلا على السؤال بعد أن تكسرت النصال على النصال؟ لا أزرع اليأس لأن رأس مال الكاتب الوحيد هو الأمل ووهم غد آخر، لكني لا أهرب منه، ليَشْخَص في وجهي، ليتمثل لي بشرا سوِياً ونبدأ النزال. أنا مضطر للكلام، للكتابة، لا يحق لأحد أن يصمت والدم يشخب من جراح الماضي فكيف بما نحن فيه الآن من مقتلة، وصيغة مفعلة يمكن أن نشتق على وزنها عشرات مثل مهزلة ومزبلة ومفسدة ومسغبة ومحقرة..أو سُنلام، ولا يدَ لنا، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأمتنا حطام.
ثم أنتبه أن ما بحوزتي من بقايا القاموس لا يعدو بعض فُتات، ما حاجتي بها لشكوى ومظلمة أو لبكاء، وأنا تعبت من ملاحقة الفوات، يقظة تظنّها الصحو يتلوها دهر من غفلة وسبات. وسواء ضحكت أم شقيت أسمع من وراء حجابٍ الكُتابَ الحُجّابَ يزمجرون: حذار، هالكٌ من يخرج عن الثبات. معناها واضح وغامض، محددٌ ومطلق، ناعمٌ حريرٌ وقاطعٌ بتّار، كالمخزن، مثلا، لا غير، تحار فيه الألباب، لا أقصد شيئا، ما زلت أطارد عبارتي كي تطاوعني وأنا على وشك الفناء، أستلهم رامبو إذ قال لا فُضَّ فوه:» إن شكوتُ، فهي طريقة أخرى للغناء».

حين كنا طلابا في الستينات، لهفة القراءة ومحاربة جوع المعرفة جعلت منا نكاد نجوع لنقتني الكتاب، ومن بين ما تهافتنا عليه” الغثيان” لسارتر، وقليل منا التفت إلى” دروب الحرية”. مضت أعوام عدت أتساءل ما شأننا نحن إذذاك بغثيان روكنتان، لم تكن الوجودية بأي حال عند جيلنا من قبيل السؤال إلا فضولا بغير أساس، وعند متفلسفين حذلقة جوفاء، مثلها (لا ـ منتمي) كولن ويلسون، بينما كان وجودنا يتجذر في أسئلة التحرر والعدالة والديموقراطية ومشروع الأمة عبد الناصر يحمل لواءها وفلسطين لها بيرق، لذا حين وقعت هزيمة 7 حزيران خرجنا من عقولنا وأجسادنا وتهنا غضبا وحزنا، رغم أنّا ما حاربنا ويا ما خُدعنا. لكي نستوعب ما نقرأ نحتاج إلى تجربة الحياة، أن نكون نحن فعلا قد عشنا ولسنا ببغاوات. والآن، وصلنا إلى الغثيان، وهو رغبة تلزمك مُكرَهاً كي تقيء ما في جوفك، وكذلك في عقلك، ونفسك، وكل ما ظننت آمنت به وضحّت من أجله أجيال، وينتهي إلى شعور الغثيان.
قلت لكم إني أمشي على رأسي من عهد بعيد، وتأكد لي صواب فعلي بما أن الحقائق كلها مقلوبة، فلسطين، مثلا، لم تكن، أرضها لم توجد، شعبها سديم، وإسرائيل وحدها الحقيقة المؤكدة، لا يكفي أن نبرم معها السلام ونتساقى كؤوس الغرام، ينبغي أن نعلم أبناءنا في المدارس أن الفلسطيني هو المغتصِب، وأبي هو المذنب، وجدّي حين قال هذه أرضنا كان يكذِب، والله جلّ جلاله (أستغفره) ما أسرى بعبده إلى المسجد الأقصى، ولا مكة بقعة مقدسة هي ويترب. ينقصنا أن نعلق في عُروات ستراتنا النجمة السداسية، فجنود الاحتلال يصبغون اليوم علامة حمراء على بيوت العرب في حيفا ويافا كي يميزوهم كما ميزت النازية اليهود وأخذتهم إلى المحرقة، ودار الزمان علينا وإذا يقلبون دروس التاريخ بعد أن بلعوا الجغرافيا ويسحلون العربي، مائة في اللّد انهالوا على فرد واحد بالعصي والأحذية واستعدوا أن ينصبوا له مشنقة.
ما رأيكم في قراءة بعض العبارات الهزلية يرددها الكبار:ـ ” على أمريكا أن تضغط لتكبح جماح إسرائيل”؛” مجلس الأمن يدعو الأطراف المتصارعة لضبط النفس”؛ وزير خارجية دولة عربية كبيرة لا فُضّ فوه يصرح بعد حرج شديد لبلاده:” ندين الممارسات غير الشرعية لإسرائيل”[ يفهم أن الاحتلال ممارسة شرعية]؛ وببرود عقلاني ديكارتي وصوت رخيم، يقول مذيع قناة فرنسية شهيرة:” الحصيلة سبعة قتلى ومائة فلسطيني” ليته أضاف: ” من الذباب”! وبالمناسبة، بعد كل الكتب التي قرأنا، القيم التي بها تشبعنا فإن مفكري الغرب الأولترا ليبرالي وما بعد الحداثة الغربية والأمريكية السوقية يفهموننا أخيرا نحن المغفلين أن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ليس لنا، وحق التظاهر للاحتجاج وحرية التعبير ومثلها من الهرطقات هي لغيرنا، ألم أقل لكم إنه الغثيان، وأبدأ الآن فأقيئ روكنتان، وبما أنه لا مكان، وأن اليأس ترف لا نملكه، أدعوكم بعده بكل أريحية إلى السير في مظاهرة عارمة.. في رأسي، فقط، هذه لن تُخِلّ بالأمن العام، لتكن نصرةً لفلسطين واحتجاجاً على أنواع شتى من الهوان، نهتف خلالها بما نشاء من الشعارات، إلا ما يمس المقدسات، نتنياهو مخول وحده أن يدوسها كما يشاء، وأعدكم أني سأتابع القتل والدمار وعرس الدم ب” قلق” وأدعو لضبط النفس من شر ما خلق!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/05/2021