أنبياء بين التوراة والقرآن -16- سليمان والجنّ

خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..

 

إن سلسلة قصص الملك سليمان في سفر الملوك الأول، لا تحتوي على ما أشار إليه القرآن الكريم من سلطته على عالم الجنّ، وعلى عالم الحيوان ومعرفته لأسلنتها. ولكنّ الأدبيات اليهوديّة خارج التوراة حافلة بمثل هذه الأخبار .
ففي الفولكلور الشعبي اليهوديّ هناك حكايا كثيرة عن السلطان الذي وهبه الله لسليمان على عالم الجنّ والعفاريت وطيور السماء وكل ما يدبّ على الأرض. وهناك ملاك مسخّر له يحمل بيده سوطاً نارياً يجلد كل من تسوّل له نفسه عصيان أمر سليمان، فيحوّله إلى رماد. وقد بنى له الجنّ هيكل الربّ في أورشليم، وقصوراً وأبنية إدارية ومرافق عامّة كثيرة، وحفروا له في أرضه نهراً، وبعضهم كان يغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والبعض الآخر يحفر في المناجم لاستخراج الياقوت والزمرد وغيرها من الأحجار الكريمة (22).
ويقول ترجوم sheni في التعليق على ما ورد في سفر الملوك الأول: (( وتكلم سليمان بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت على الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن دبيب السمك. )) (4: 33-34) ، بأن سليمان كان متسلطاً على كل الحيوان الذي يدبّ على الأرض، وعلى طير السماء، وكان يفهم ألسنتها جميعاً. حتى أنه كان يتحدث مع الأشجار. كما كان متسلطاً على الجنّ وعلى أرواج الظلام (23).
ووصلنا نصّ في أكثر من نسخة معروف بعنوان وصية سليمان Solomon’s Testament – ، مكتوب باليونانية الهيلينستية وهي لغة الأناجيل، ويرجع تاريخه إلى الفترة بين القرن الثاني والقرن الرابع الميلاديين، والنصّ يهوديّ من حيث الأصل، ولكنه خضع للمسة تحريرية مسيحية تتحدّث عن ظهور يسوع المسيح في المستقبل. وهو مكرّس لوصف سلطان سليمان على عالم الجنّ والعفاريت من خلال خاتم سحريّ يضعه في إصبعه، وتسخيرها في أعماله العمرانية. وهو يذكر بالتفصيل أنواع هؤلاء الجنّ ووظائفهم ومهاراتهم (24).
وفي وصية سليمان، لدينا قصّة عن العفاريت الذي يطيرون نحو قبة السماء من أجل استراق السمع ومعرفة الأوامر التي يصدرها الله إلى الملائكة، وبذلك يتنبأون بالحوادث المقبلة :
فقد احتكم رجل عجوز إلى سليمان شاكياً ابنه الوحيد الذي يعامله معاملة سيئة ويضربه ويهدده بالموت. فاستدعى سليمان الشاب وسأله عن حقيقة الأمر، فأنكر التهمة وطلب إنصافه من أبيه الذي تجنّى عليه. ولكنّ الأب أصرّ على طلب الموت لابنه. وكان العفريت المدعو أورنياس حاضراً فضحك. ولما سأله سليمان غاضباً عن سبب ضحكه، قال له بأن الوالد سوف يموت بعد ثلاثة أيام موتاً طبيعياً. فأمر سليمان الأب والابن أن يعودا إليه بعد ثلاثة أيام. وعندما انصرفا سأل سليمان العفريت عن الوسيلة التي تعينه هو وأقرانه على كشف حجب المستقبل. فقال له: نحن نطير نحو قبّة السماء ونتجول بين النجوم، فنسمع الأوامر التي يصدرها الله إلى الملائكة بخصوص حيوات البشر؛ ولكن بما أننا لا نملك قدرة الملائكة على الطيران الطويل، فإننا نتعب لعدم وجود شيء نستند إليه أو نستريح عنده، فيقع بعضنا من الأعالي ويهوي مثل وميض البرق، فيظن الناظر إلينا أننا نجوم تتساقط من الأعالي. (25).
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الشياطين التي تطير كي تسترق السمع في السماء، وعن شهب تنقض من السماء لإتلافهم:
«ولقد زينّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين.»(67 المُلك: 5) .
«إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظاً من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلا الملأ الأعلى ويُقذفون من كل جانب» (37 الصافات : 6-8) .
«ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزينّاها للناظرين، وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين» (15 الحجر : 16-17) .
ولدينا في الرواية القرآنية أيضاً قصة عن سليمان كثيرة الغموض، ولكن يبدو أن لها صلة بعلاقة سليمان بالجنّ. نقرأ في سورة ص هذه التتمة للمقتبس الذي أوردناه أعلاه :
«ولقد فتنَّا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً، ثم أناب. قال: ربّ اغفر لي وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب. فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كلّ بناء وغواص، وآخرين مقرنين بالأصفاد» (38 ص : 34-38) .
لا يعطينا النصّ أيّ مفتاح لفهم هذه القصّة الشديدة الاختزال. ولكننا نجد في الأدبيات اليهوديّة خارج التوراة ما يلقي الضوء عليها. فقد ورد في إحدى الملاحم اليهوديّة، أن العفريت المدعو أسموديوس تحدّى الملك سليمان لأن ينزع خاتم القوة من إصبعه، ولما فعل ذلك سليمان ضرب أسموديوس بجناحه سليمان فرماه إلى مسافة أربعمئة فرسخاً في الفلاة، ثم اتخذ شبهه وجلس على عرشه. أما سليمان فقد راح يهيم على وجهه شريداً يستجدي طعامه، وكلما كان يقول للناس بأنه الملك كان يلقى الهزء والسخرية منهم، واعتبر مجنوناً وفاقداً للرشد. أخيراً وصل إلى شاطئ البحر واستجدى من أحد الصيادين سمكة، وعندما شقّها وجد خاتمه في بطنها فوضعه في إصبعه وعادت إليه قوته. فعاد إلى عاصمته واستردّ ملكه (26).
وقد ورد في تفسير ابن كثير ما يلي :
يقول تعالى: «ولقد فتنّا سليمان» أي اختبرناه بأن سلبناه المُلك. «وألقينا على كرسيه جسداً»: قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: يعني شيطاناً . « ثم أناب» : أي رجع إلى مُلكه وسلطانه وأبهته. وقيل أن اسم ذلك الشيطان صخر، وقيل أيضاً صرد، وحقيق، وآصف .
ومن القصص التي يوردها ابن كثير عن بقية المفسرين والإخباريين، أن سليمان قال لشيطان اسمه آصف: كيف تفتنون الناس؟ فقال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر. فساح سليمان وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه. فكان سليمان يستطعم ويقول: أتعرفوني؟ أطعموني أنا سليمان، فيكذبونه. حتى أعطته امرأة يوماً سمكة ففتح بطنها فوجد خاتمه، فرجع إليه ملكه وفرّ آصف فدخل البحر.
ويعلق ابن كثير على هذه القصّة وغيرها قائلاً: وأرى هذه كلّها من الإسرائيليات.
على أن من رفض مثل هذه التفسيرات لم يأتنا بما هو أقرب إلى مقصد الآية الكريمة. يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير أنّ الفتنة المذكورة في الآية هي فتنة واختبار في الجسد. فقد ابتلى الله سليمان بمرض شديد أصابه بالهزال، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي. ثم أناب بعد ذلك أي رجع إلى حالة الصحة.
وهذا التفسير للرازي ينطبق على الآية الكريمة لو أنها قالت: « وألقينا على سريره جسداً» لأنّ المريض لا يجلس على العرش وإنما يأوي إلى السرير. والله أعلم .

الشواهد:
1 – لم يرد ذكر سليمان ومملكته في أي وثيقة من وثائق الشرق القديم .
2 – في عصر سليمان ، أب في مطلع القرن العاشر ، لم تكن مملكة سبأ المعروفة تاريخياً قد نشأت بعد ، وهي لم تنشأ إلا في مطلع القرن السادس قبل الميلاد .
3 – عين القطر : أي النحاس الذائب .
4 – الجفان هي الطسوس ، والجواب هي الأحواض العظيمة .
5 – الصافنات هي صفة للجياد السريعة .
6 – حب الخير ، أي حب الخيل .
7 – توارت بالحجاب ، أي غابت عن البصر .
8 – أي أعيدوها لي .
9 – السوق هي السيقان .
10 – أي ألهمني .
11 – أي ببرهان واضح على سبب غيابه .
12 – أي حضر الهدهد ووقف غير بعيد .
13 – أي الشيء المستور .
14 – أي جاء الرسول الذي بعثت به الملكة إلى سليمان .
15 – والقول هنا لسليمان .
16 – أي غيروا وموهوا عرشها لنرى إن كانت تعرفه .
17 – ومنعها سليمان عما كان تعبد .
18 – أي القصر أو ساحته .
19 – أي مجمع ماء .
20 – مستوٍ .
21 – أي زجاج .
22 – k. Sanadiki , Legends and Narratives of Islam , Chicago , 2000 , p.206 . citing : L.Ginzberg , Legends of the Jews , IV , pp . 140 – 145
23 – J.H. Charlesworth : The Old testament Pseuepigrapha , Doubleday ,
New york , 1983 , Vol . 2 ,p947
24- المرجع نفسه ، ص 935 وما بعدها .
25- المرجع نفسه ص 982 – 983 .
26- K. Sanadiki , legends and Narrative of Islam , kazi publications , Chicago , 2000 , p.223 . citing : louis Ginzberg , legends of the jews , I V , p . 169 .


الكاتب : فرس السواح

  

بتاريخ : 20/05/2021

أخبار مرتبطة

  ينظم  أصدقاء الوشاح الزهري يوم الاحد 13 اكتوبر القادم بكورنيش الدار البيضاء مبادرة توعوية و رياضية و صحية اختير

حدّدت النيابة العامة جلسة 23 أكتوبر لمتابعة الطلبة الموقوفين على خلفية احتجاجات الرباط، الذين أخلت سبيلهم وقررت متابعتهم في حالة

بعد أكثر من خمس ساعات من النقاش الذي كان محتدماً في بعض الأحيان بين الدفاع وهيئة الحكم، تم تأجيل ملف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *