خاض الباحث فراس السواح في مواضيع تتعلق بالأديان والفلسفات والأساطير فى الشرق، وفي عقد المقارنات بين الأديان، ومن ذلك ما فعله فى كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، إذ طرح مسألة التشابه بين القصص القرآنى والقصص التوراتى من زاوية الباحث الذي يعتمد منهج علم الأديان المقارن. فسرد أمامنا قصص العديد من الأنبياء كلوط وابراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى وداوود وسليمان ويونس وغيرهم..
لم يذكر القرآن من أخبار داود إلا النذر اليسير، ولكنه توقّف عند قصّة داود وزوجة أوريا الحثي، وقدّمها بطريقة شديدة الإيجاز والاختصار، وذلك من خلال قضية بسطها أمامه رجلان طالبين منه الحكم فيها:
« واصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد (4) إنه أواب (5). إنا سخّرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق، والطير محشورة له كلٌ أواب (6)، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (7)».
” وهل آتاك نبأ الخصم (8) إذ تسوروا المحراب (9). إذ دخلوا على داود ففزع منهم (10)، قالوا: لا تخف. خصمان (11) بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشتط (12)، واهدنا سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة. فقال : أكفلنيها (13) وعزني في الخطاب (14). قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخُلطاء (15) ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا، وقليل ما هُم (16). وظن (17) داود إنما فتنَّاه (18) فاستغفر لربه وخرّ راكعاً وأناب (19). فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب. يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب». ( 38 ص : 17-26 ) .
إن الرجلين اللذين دخلا على داود متجاوزين الحرس والأسوار، هما ملاكان أرسلهما لله لتنبيه داود إلى خطيئته من خلال روايتهما للقضية التي فيها يختلفإن، وهي القضية التي رواها النبي ناثان للغرض نفسه. وعندما حكم داود للفريق المظلوم أدرك هوية الرجلين وانتبه إلى أنه عمل الشيء نفسه عندما أخذ زوجة رجل لا يملك إلا زوجة واحدة، في الوقت الذي يمتلك هو أكثر من زوجة وعدداً من السراري، وعرف أن لله قد امتحنه بمحبة تلك المرأة، فاستغفر لربّه وخر راكعاً معلناً توبته وندمه.
ونلاحظ أن الرواية القرآنية لا تتعرض لمعاقبة داود في موت ابنه البريء، لأن لله عز وجل قال في كتابه العزيز: “ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى”. ( 6 الأنعام: 161 ) . أي إن النفوس تجازى بأعمالها ولا يحمل أحد خطيئة آخر. بينما يضع المحرر التوراتي على لسان إله إسرائيل قوله:” أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع”. (الخروج 20 : 5).
ولدينا في القرآن خبر ثالث عن داود في سورة الأنبياء:
“وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث (20) إذ نفشت (21) فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان (22)، وكلاً آتينا حكماً وعلماً”. (21 الأنبياء : 78 ). وهذا الخبر غير وارد في التوراة، وليس هناك من اتفاق بين المفسّرين بخصوصه.
فيما عدا هذه الأخبار الثلاثة، لا يوجد في القرآن سوى إشارات عابرة إلى كونه نبياً، وإلى الكتاب الذي أُنزل عليه وهو الزبور:
«لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم».(5 المائدة: 78).
«وآتينا داود زبوراً».(4 النساء: 163).
«ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض، وآتينا داود زبوراً». (17 الإسراء: 55 ).
«ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» (21 الأنبياء : 105 ).
والزبور الوارد ذكره في هذه الآيات هو كتاب المزامير في التوراة. وهو عبارة عن أناشيد وصلوات دينية كانت ترتل في الهيكل بمصاحبة الآلات الموسيقية. وبلغ عددها في سفر المزامير مئة وخمسين مزموراً، ومعظمها يعزى إنشاده إلى داود. وهذا نموذج منها:
« لإمام المغنين. مزمور لداود عندما جاء إليه ناثان النبيّ بعدما دخل إلى بتشبع.
«ارحمني يا لله حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك أمح معاصيَّ. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني، لأني عارف بمعاصيَّ وخطيتي أمامي دوماً. إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت، لكي تتبرر في أقوالك وتزكو في قضائك. هأنذا بالإثم صُوّرت وبالخطيئة حملتْ بي أمي. ها قد سُررتَ بالحق في الباطن ففي السريرة تُعرّفني حكمة. طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج. اسمِعني سروراً وفرحاً فتبتهج عظام سحقْتَها. استر وجهك عن خطاياي وامح كل آثامي. قلباً نقياً أُخلق فيَّ يا لله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي ..» (المزمور 51).
الهوامش:
1 – الدهن : هو زيت المسحة المقدس .
2 – هذه السنوات لحكم ملوك إسرائيل الأوائل يفترضها المؤرخون من خلال تقصيهم للرواية التوراتية . ولكن لا يوجد لدينا أي شاهد تاريخي أو آثاري على وجودهم .
3 – لا يوجد أي برهان تاريخي على قيام هذه المملكة الواسعة في القرن العاشر قبل الميلاد كما أن الدلائل الأركيولوجية لا تثبت قيامها ، والمُلك داود غير مُوَّثق خارج النصوص المقدسة .
4 – أي ذو القوة .
5 – كثير الإنابة إلى لله .
6 -تسبح لله الجبال معه ، فتردد الطير رجع ذلك التسبيح .
7 – الكلام المبين .
8 – أي الخصوم ، والمقصود هنا اثنان .
9 – ارتقوا سور المحراب .
10 – لأنه لا يعرفهم ولأنهم دخلوا دون استئذان .
11 – أي نحن خصمان .
12 – لا تظلم .
13 -اجعلها تحت كفالتي أو مَلّكْنيها .
14 – أي غلبني في الجدال .
15 – أي الشركاء .
16 – أي وهؤلاء قليلون .
17 – أي علم وأيقن .
18 – أي امتحناه وجربناه .
19 – رجع بالتوبة إلى لله .
20 – الحرث هو الزرع . والمقصود هنا كرماً مزروعاً .
21 – أي رعته ليلاً بلا راع .
22 – أفهمناه الحكم في القضية .