حوارات ولقاءات مع بيير بورديو ..الحقل الأدبي وعلاقات الهيمنة (1/2 ) 32

مضت سنوات على فتح بيير بورديو آفاق جديدة للتأويل السوسيولوجي لأحداث الأدب، بإخراجه إلى النور مفاهيم كمفهومي «سوق الممتلكات الرمزية» و «الحقل الأدبي». ولوصف تَكَون وبنية هذا الأخير، كرس مؤلفه الهائل «قواعد الفن» (لوسوي، 1992). بالإضافة إلى ذلك، فالاهتمام الذي يخص به الثقافات التي تمثل الأقلية أو المهيمن عليها، عبر عن نفسه عدة مرات، لا سيما في مجلة « ليبر» التي يُسيرها و التي خُصص أحد أعدادها المشهودة لبلجيكا. بمناسبة هذا العدد من «تيكستيل»، طلبنا منه الرجوع إلى التحليل الذي يخصصه اليوم للحقل الأدبي البلجيكي في ما يشكل الموقع المعقد وغير المؤكد لهذا الحقل.
تمهيدا للنقاش: منذ وجوده، أي منذ قرن ونصف القرن، تم التضييق على الأدب البلجيكي بين ميلين: ميل الانصهار في الأدب الفرنسي، جاره الكبير الوصي، و الثاني تأكيد نفسه باعتباره حرا وله خصوصيته. إنبثق النقاش مؤخرا، و بينما لا يُدرّس هذا الأدب في المدارس ( ما عدا الأقسام الجامعية، وبالكاد )، حيث نلحظ بشكل متزايد اهتمام القراء الشباب بكتاب صُرحاء، قراءتهم، التعرف عليهم. مما لا شك فيه أن هذا يساير ظهور جيل من الكتاب الموثوق بهم و الديناميكيين بوجه خاص، أبانوا عن ثراء غير مسبوق – كوسان، زافيتسكايا، روجييرس، هومن، أوترس، كليف، نوثومب، بياسبان، لامارش، ليبر، إلخ. ربما يطابق ذلك أيضا كون هذا الأدب أصبح يُدرّس أكثر فأكثر لذاته، بأدوات تساعد في إخراج أشكال سابقة من الاحتفاء المجامِل. أفكر هنا في أولئك المحللين و المؤرخين الشباب الذين يشتغلون في صفكم تبعا لمنظورات قريبة أمثال أون، بيرون، غراوز، دريكس، بيرتران، دنيس، إلخ. إنهم يلقون على الأدب البلجيكي ومؤسساته نظرة تأويلية متجددة و، بوجه الخصوص، على التناقضات التي تُشغّل هذا الأدب. تمكن ميشيل بيرون، بوجه خاص، أن يثبت كيف أن الأدب البلجيكي، إذ يتم تناوله داخل تطلب مزدوج ومتناقض في الغالب للاستقلالية، أحس أكثر من أي أدب آخر بما يشكل استعصاء أية حداثة (1).
لكن، لنبتدئ بسؤال استباقي. قبل سنوات مضت، اقترحتم وصفا أول لوضع الأدب البلجيكي (2) و، في ما بعد، من خلال ملفات « ليبر « بوجه الخصوص، أبنتم بشكل منتظم جدا عن اهتمام بثقافات و آداب الضواحي. هل يستمد هذا الأدب منبعه من التصور الحاصل لديكم عن الحقل الأدبي وعن علاقات الهيمنة التي تشكل أساس المجالات الفنية؟
بالفعل، فالمقالة التي كنت كتبتها حول الأدب البلجيكي، حول الأدب الفرنسي لبلجيكا، كانت تنطلق من اعتبارات نظرية. كانت نوعا من الحاجة النمودجية، بما أن لدينا هنا، كما يبدو لي، حالة أدب تابع أدبيا ومستقل سياسيا. لدينا هنا إذن، كما هو الشأن في سوسيرا أو الكيبيك أو في حالة النمسا بالنسبة لألمانيا، وضعية حيث تحل حدود سياسية لتقسيم الحقل الأدبي، والحقل الأدبي هو، بمعنى معين، أقوى من الحقل السياسي. هذا مهم لأنه يثبت أن هناك خصوصية للهيمنة الأدبية. يمكن أن نكون أحرارا سياسيا و أن نظل تحت الهيمنة أدبيا. بناء على ذلك، كنت ميالا إلى إبراز أثر الهيمنة. بمناسبة عدد « ليبر « الذي خصصناه لمشاكل بلجيكا، أساسا من خلال المقالات الثلاث لباسكال كازانوفا (3) التي تعتبر جوهرية تماما – و التي تؤهله لكي يتم تعيينه شرفيا ببلجيكا -، بدا لي أنه، إلى جانب ما كنت أكدت عليه كثيرا، أي هيمنة، جاذبية المركزي، سحر باريس ( الذي يصفه باسكال كازانوفا وصفا جيدا بخصوص الحالة القصوى لميشو، حالة الاستيلاب الناجحة على نحو رائع لشخص طرح للنسيان ونُسي كبلجيكي )، هناك ما نسميه الغضب البلجيكي، غضب البلجيكيين. وفي مقالة، هي ظاهريا مجرد تقرير حول كتاب تاريخي – سيري تقديسي، تُبرز الدور المدهش الذي لعبه أهل بروكسيل طيلة القرن التاسع عشر باعتبارها الحظ الثاني ضد باريس التي كانت تهيمن على العالم الأدبي كله، و باعتبارها فضاء لمجموعة من الاعتراضات. إنها تُذكر إضافة إلى ذلك، في عمل هي بصدد إنجازه و أعتقد بأنه سيكون بالغ الأهمية، بأن البلجيكيين كانوا نماذج بالنسبة للإيرلنديين، للنورفيجيين، لمجموعة من الأمم الصغيرة. علاوة على ذلك، هناك مقالة أخرى، حول كوبرا، كانت تسلط الضوء على أنه لم تكن هناك فقط مقاومات عفوية وفردية للهيمنة، بل مقاومة منظمة حتى.
تبدو لكم كوبرا، إذن، باعتبارها نموذج مضاد العلاقة العادية للوصاية و للهيمنة. وهذه الحركة، التي كانت تتجاوز حدود الفنون والأمم، تحثكم على مراجعة تصوركم للهيمنة الرمزية.
حالة كوبرا مهمة لأنها تسلط الضوء على أننا – علاوة على هذا النوع من النزوع إلى التدمير، المرتبط بموقع المهيمن عليه داخل الفضاء الأدبي – نرى أنه يبرز في بعض الظرفيات مبادرات منظمة للمقاومة. بدا لي استيعاديا أن التطبيق الذي كنت أجريته بشيء من الاستخفاف من نموذجي كانت مُشوِّهة بكل صراحة. إن عدة مقالات لكُتاب ونقاد بلجيكيين، يتضمنها هذا العدد، دعمت هذا الإحساس و أعتقد – وانا أعود هنا إلى جوابكم – أن وعيا أكثر حدة بخصوص الهيمنة الأدبية، الوسائط التي تتم عبرها، للهيمنة عبرها، للهيمنة المدرجة، المستبطنة، الجسدية تقريبا، للخضوع المدرَج في كل هيمنة رمزية، بإمكانه أن يكون وراء حركة تحرر أدبي. هناك استعمارات رمزية. و يمكنني القول، مجازفا بأن أكون متعجرفا، بأن أحد نوايا « ليبر «، هي العمل، داخل نوع من الأممية الفكرية للأمم، على توحيد التقاليد التي تحتل، لدوافع تاريخية، مواقع مهيمن عليها، على هذا المستوى، أن تكون نشيطة بوجه للخصوص، ديناميكية، في نضالات من أجل أممية جديدة.
بهذا الخصوص، يمكننا الإشارة إلى تأويليّ الأدب البلجيكي اللذين أقترحهما، على نحو تنافسي، مارك كانمبور وجان – ماري كلينكبرغ، واللذين أبرز داميان كراوز، في « تيليتكس «، انعطافاتهما المختلفة رغم وجود قاعدة تأويلية مشتركة. بالنسبة لكاغبور، فميزة هذا الأدب، حين تبرز، ترتكز قبل أي شيء على تمرد اتجاه اللغة التي تطبع مختلف الحقب و المدارس و التي كانت تسعى، باعتبارها تعبيرا عن لاوعي جماعي، إلى أن تكون مؤسسة لهوية. ما ينجم عنه « منتظمو اللغة «، أولئك الذين أبرزهم معرض في السابق و الذين يشبهون على الأرجح محاولات شديدة التفاوت. بالنسبة لكلينكبيرغ، فالتأكيد المستقل لن يكون بالتأكيد غير مبال بأحداث اللغة لكنه سيرتكز في ما هو أساسي على تموقع مؤسساتي، تحريري، إلخ، و، على نحو ما، لإدراك علاقات الهيمنة و عيشها. ما يترتب عنه أننا نرى، تبعا للحقب و للأجيال، أهمية في انتماء فرنسي كبير أحيانا وفي المطالبة بالاستقلالية أحيانا أخرى.
! ليس ذلك حصريا
ليس حصريا.
إلا أنني أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك نوع من « الهابيتوس « الأدبي الوطني، الذي هو نتاج وضعية، موقع دائم لمقاومة الهيمنة، إلخ. وقد قيل ذلك كثيرا بخصوص الإيرلندين.
ربما بخصوص النمساويين أيضا.
أجل، هناك سوسيولوجيا لعلاقات القوة الرمزية من أمة أدبية إلى أمة أدبية أخرى بإمكانه أن يساعد على فهم الأمور التي لا نفهمها حين نمارس سوسيولوجيا علاقات القوة السياسية. طبعا، إن علاقات القوة الأدبية تقترن في الغالب بعلاقات القوة السياسية، إلا أن هناك حالات حيث لا يكون ذلك بسيطا جدا. مثلا، علاقات الولايات المتحدة – إنجلترا، التي تمضي لصالح الولايات المتحدة، ظلت لوقت طويل في مصلحة الإنجليزيين. هناك سياسة أدبية بحصر المعنى.
كما ينبغي توفر إمكانيات تلك السياسة. و ، مثلا، التمكن من الارتكاز على تلك المعايير التي هي الأعمال الكبيرة المجددة. لقد أمكن لآداب قاصرة كالأدب النمساوي أو الإيرلندي الاستفادة من كتاب ذوي بُعد كبير، أكد البعض منهم أنهم في قطيعة داخل أدب الهيمنة كما هم مع أدب الانتماء. فقد كان جويس، بكيت، بيرنهارد نماذج ومحركات على هذا المستوى. لم يمتلك أدب بلجيكا تلك المعايير الكبيرة، ولم يستطع، رغم أنه كان له إنتاج نوعي عبر الأزمنة، أن تكون له الأسماء البارزة التي كان يتطلع إليها أو التي كان يستحقها.
كان ميترلينك مهما، مهما جدا.
لكن، في ما بعد، انفلت ميشو أو سيمونون لبلجيكا.
كان لميترلينك دور كبير بالنسبة للإيرلنديين، مثل إيبسن تقريبا. إنهما كاتبان كانا مهمين إلى حد كبير بالنسبة لجميع البلدان الصغيرة، بصفة أساتذة فكر التحرر. هناك تفسير لخصوصية بلجيكا، هو الهيمنة الساحقة لباريس. كانت باريس تهيمن على العالم الأدبي، وأن يكون بلد ما تحت الهيمنة المباشرة لباريس، في نفس اللغة، يعني وضعية غير مواتية إلى حد كبير، الأمر نفسه ينطبق على مستعمَري فرنسا. إنهم ليسوا إطلاقا في نفس موقع مستعمري انجلترا ( بيكيت مثلا)، الذين كانت باريس بالنسبة لهم كملاذ.
أ لا يمكننا القول بأن البطائق توزع اليوم من جديد في نفس نطاق أن الأدب الفرنسي لم تعد له الهالة مؤقتا، قوة التجميع التي ظلت له لمدة طويلة؟ بحيث أن آداب الضواحي أصبحت مأخوذة منذ بعض الوقت داخل حركة مزدوجة، هي حركة إضفاء النزعة الأوروبية للثقافة وحركة ظهور هويات قاصرة. كما لو أن الرياح كانت مشجعة، في مواجهة أدب فرنسي تنقصه، ولو مؤقتا، أقطاب جاذبية، لتأميم الفضاء الأدبي.
مما لا شك فيه أن علاقات القوة داخل العالم الأدبي تغيرت كثيرا. الأمر معقد. في الوقت الراهن، اتخذ القطب التجاري الأمريكي وزنا متزايدا بالنظر إلى القطب الأدبي. داخل الفضاء الأدبي بحصر المعنى، أعتقد أن باريس لا تزال قوية جدا، أن الناس يرغبون أن تتم ترجمتهم في باريس. إلا أنه من الصعب جدا الحديث عن ذلك لأنه رهان صراع بالطبع. ما أن قال دارسون، أمثال دومناخ، « انتهت الرواية الفرنسية «، حتى كان لذلك نجاح خارق في ألمانيا و الولايات المتحدة لأسباب واضحة بشكل تقريري. وكان لذلك أيضا نجاح كبير لدى كتاب « فيغارو « الرديئين الذين يبتهجون لسماع أن الرواية، بمعنى الأدب الطليعي، ماتت. إنها نقاشات معقدة جدا حيث الناس حكم وطرف في الوقت نفسه ولهم مصالح مختبئة بديهية إلى حد أن بإمكاننا الاشتباه في جميع الأحكام بكونها تموقعات مهتمة. لذلك أتردد دائما في التدخل. بذلك نعود إلى سؤالكم. صحيح أنني أنزع بشكل متزايد إلى الانتقال من التحليل إلى النقد. ينبغي ابتكار شكل جديد للنضال و الحقل الأدبي واحد من فضاءات النضال السياسي الخاصة والمهمة جدا التي تم التخلي عنها للكتاب المتملقين، في معظم الأحيان، في نرجسيتهم.


الكاتب : ترجمة: سعيد رباعي

  

بتاريخ : 24/05/2021