«ذاكرة بدون رصيد»

 

أصبح لا يسارع في الصعود إلى شقته، عند عودته، لم يعد أيضا يردد أغنيتها المفضلة وهو يدير المفتاح في قفل الباب للدخول
بجسد أنهكه العمل طول اليوم، يغلق الباب بعناء، بعد الدخول، يلتصق به متكئا عليه، يطلق العنان لنظراته تتجول بالأركان الفارغة، وهو يلتقط أنفاسه.. له الوقت الكافي لفعل ذلك..
الغياب جرح يغرس مخالبه في قلب وردة، هكذا تنزف نظراته المتشظية وهي تحط على مقبض باب عشهما..
مناداتها إعلانا عن وصوله، لم تصبح من عاداته، من المطبخ يتصاعد مواء قطه « ميشو» متثائبا، ومحاولا الإسراع في خطواته لاستقبال صاحبه..
صار البيت كهفا!
أسمع بين أرجائه صدى صوتها يا ميشو وكأنها لاتزال على قيد الحياة، مواؤك يوقظني من وهمي، ويذكرني بأنها سلكت طريق اللاعودة، اشتقت إلى رؤيتها في كل الأماكن، خاصة بحضني، ما أقسى النسيان !
علي مع القدر ضدي يتحالفان، لم يتبق لدي منها سوى ذكريات حارقة لا تنفك تلسعني في النوم واليقظة، مرت ثلاث سنوات على تشييع جنازتها، وكأن الأمر حصل صباح هذا اليوم.. النسيان جهاز هضم كسلان أمام بعض الذكريات!
الذاكرة ملعونة، تضعنا أمام جراحاتنا في الوقت الذي تشاء ..
« واسيني الأعرج «كما يقول
تلتقط ما يصعب على آلة التصوير اقتناصه..
أشياء غير قابلة للذوبان، للتحلل، أو التلاشي
أشياء تجهل ثقافة الدخول من الأبواب … أشياء تشق صدري وتبث فيه ما تشاء.
من قلب انغماسه بمشاهد فيلم
The Secret in their eyes
يجد نفسَه يخاطب قائلا:
“لا أدري متى أعود إلي
الغياب لا يفي بوعوده
رسائله، تسقط من حقيبة ساعي البريد، و بقلب رياح الحنين تهب..
هو الآن منهمك في كنس المحطات ومحاولة إفراغ حقائبه من أيام، ظنها ذات فرح، جنته، وشمسه العصية على الغروب.».
على أريكة تتوسط الشقة الصغيرة، يرتمي، يلاحقه قطه، يزاحمه في المكان، وكأنه يستأنس بصوت سيده وهو يفيض من كأس التعب من كل شيء، حتى أنه يستلقى على الأريكة دون التخلص من ملابس العمل، ودون أخذ حمام ساخن كما تعود على القيام بذلك وهي على قيد الحياة..
كانت لا تسمح له بالجلوس أو الاستلقاء بأي مكان بالبيت، حتى يأخذ حمامه، يرتدي منامته، ويتناول طعامه الذي تهيئه له حسب ذوقه .. بعد ذلك، كطفل هادئ يجلس إلى جانبها على نفس الأريكة التي لا تسع ثالثا إلا قطهما، يتبادلان أطراف الحديث والتحدث، وصوت الشاي المنعنع تصبه « بالرزة» ساخنا في كأسه، يضفي ويضيف دفءا لجلستهما..
سكن الليل وفي ثوب السكون تختبئ الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيون
عيون، عيون ترصد الأيام
فتعالي، فتعالي..
يا ابنة الحقل نزور كرمة العشاق
صوته يرتفع في ترديد أغنية فيروز المفضلة لديهما
حشرجة أفضت به إلى نحيب جامح
تلك خطوة قدر حسمت ما سيأتي، ولن تتعب الرياح في تعديل الأشرعة..
خارج التجديف
الرياح تطاوع التيار
حتى تحط على شاطئه
كعادته، حين يخدش الكلام وجهه، بالصمت يستجير وطنا..
الصمت لا يعلق جرسا ببابه، لا يستقبل ساعي البريد، ولا يملك مدخنة
باب واحد يكفيه لاستقبال كل من يقصده، أما النوافذ به، عليه تطل وليس خارجه..
لا يسأله عن موعد خروجه منه، ولا يسأله متى اتجه إليه أو متى يقصده .. بعيون ترقص على حبلي الأمل والألم، يخلص حديقته من الأعشاب الطفيلية، يشذب أشجاره، يفرغه من الضجيج، ويقترح عليه الالتحاق بمعبده..
خدود الصبار المتوردة به تيبّست
بهدوء شيخ وقور، في وجه تجعّدات قاسية يبتسم، وهي على شوكه الرشيق تزحف..
رغم ذلك لا يزال يحافظ على نضارة لونه!
أهو إلى الموت خلفها يسعى، أم أنه على تخزين المزيد من رسائل الغيمات الممطرة يصر؟!
لم يعد يملك ما يكفي من الصبر لانتظار حلول النقطة التي تُفيض عيون البحر
وما يراه من خضرة تعلو تجعّداته، ليس إلا آخر كلمة يسقي بها عطش شمس حارقة، قريبا ستعلو رأسه، ليكون بعد ذلك جاهزا للارتماء بين ذراعي نار خجولة، يشعلها راع فقير بصحراء قلبه..
بحوض الأسماك « الأكواريوم « ظله يلقي بنفسه
ظله طفل، يحب تعلم اللغات
مشوار طويل ينتظره لتعلم تلك اللغات، يحدثه عن المدارس التي سيقصدها لإتقان النطق بها وفهمها والتواصل عبرها، بعد خروجه من حوض الأسماك، سيحل تلميذا بأقفاص الأصوات، النظرات والأحلام، على يد الدوري الذي يسمع صوته كل صباح ينبعث من قفص بشرفة الجيران، سيتمرن على الارتطام بالقضبان وهو يغرد
سيتمرن على تناول طعامه بانتظام، والموت كل يوم يقضم منه قطعة، فيدنو منها أكثر، سيتمرن على كيفية نقر أرجاء القفص بقوة، محذرا الطيور المحلقة حوله من خطر الاقتراب..
على جسر الجنون يعثر على فردة حذائه الثانية
يعثر أيضا على ابتسامات متشردة تحب حياتها الجديدة، وتحذر الاستقرار على ثغر حلم يخون تحليقه.
بالمساحات المترامية الأطراف خارج الجدران الإسمنتية بعيدا عن ختم المصادقة على النسخ
بوجه واحد لا يقبل الاستنساخ، يستقبل الصباحات، يفتح ما ببيته الصغير من نوافذ، يطل عليه في المرآة، من الأمام يلملم الاتجاهات، في جرعة واحدة، بجوف الكتمان يسكبها، ثم ينام مطمئنا
ولسان حاله يردد:» لا شيء سيكون ضدي، وأنا في اتجاهي أنساب..»


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 24/05/2021