أليست «الأزمة» المتصاعدة بين إسبانيا والمغرب (التي فصل قصة «أحداث سبتة» هذه الأيام من أحدث عناوينها)، سوى تتويجا لتحولات بكامل منطقة الغرب المتوسطي، ظلت تتراكم منذ ما قبل أزمة جزيرة ليلى سنة 2002؟. ذلك أن ماء كثيرا قد جرى بمضيق جبل طارق، بمنطق التيارات المغيرة لدفة الإبحار، عدل من منطق المصالح بها، قليلا ما يجعل السباحة في بحر فهم تلك التحولات أمرا سهلا أو يسيرا. وهي تحولات تجعل المرء يجزم، أنها من شدة قوتها، تكاد تشكل أول انعطافة تاريخية تنسخ وتتجاوز نهائيا منطق «شروط الخوزيرات» (نتائج مؤتمر الجزيرة الخضراء حول «القضية المغربية» سنة 1906). وأن عنوانها الأكبر «العودة القوية للمغرب إلى عمقه المتوسطي»، التي ليس آخرها إنشاء ميناء طنجة المتوسطي وميناء القصر الصغير العسكري، ولن تقف أيضا عند مشروع «ميناء الناظور» الجبار الذي شرع في إنجازه منذ ثلاث سنوات، بل إنها ستتجاوز ذلك، إلى إعادة موقعة ملف مدننا المحتلة التاريخية سبتة ومليلية بمنطق القرن 21.
بالعودة قليلا، إلى أرشيف البرلمان المغربي، منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، سيجد الباحث أن جزء وازنا من النخبة السياسية المغربية، من موقع مرجعيتها الوطنية والتقدمية (ممثلة في المعارضة الإتحادية تحت جبة وخيمة الزعيم الكاريزمي عبد الرحيم بوعبيد)، قد شرعت تطالب حينها بأمرين/ خطوتين هامتين واستراتيجيتين، هما:
استعادة العمق المتوسطي للمغرب، من خلال إعادة نظر شاملة لمشروع تنمية كل الشمال المغربي، على كافة المستويات (في مقدمتها التعليم والصحة والنقل).
ثم التقدم بمقترح قانون لإعادة تحديد جديدة للمياه الدولية للمغرب، لنقلها من 12 مايل إلى 200 مايل (حوالي 300 كلمترا)، استنادا على التغيير في قانون البحار الدولي الذي نجحت حينها في تغييره مجموع دول أمريكا اللاتينية.
من حينها، بدأت تختمر في استراتيجية الدولة المغربية، على أعلى المستويات، فكرة جديدة لمشروع إصلاحي ضخم، تتجاوب وضرورات النظام العالمي الجديد الذي سيعلن عن نفسه ابتداء من سنة 1989/ 1990، مع سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفياتي وكل المنظومة الشيوعية بأروبا الشرقية. بالتوازي مع بروز الحركية الإصلاحية الهائلة المنطلقة بالصين، التي أطلقها زعيمها التاريخي دينغ شياو بينغ ، المتأسسة على فكرة «دولة واحدة بنظامين» (نظام سياسي مركزي شمولي لا تعددية سياسية فيه، ونظام اقتصادي بمنطق نظام السوق). فقد أدرك «عقل الدولة» المغربي، منذ 1992، أن دفتر تحمل العلاقات الدولية قد تغير بشكل جدري، وأن من شروطه الجديدة، واجب التواؤم مع منظومة «نظام السوق»، الذي بوابته الكبرى خيار «الإنفتاح» سياسيا وحقوقيا واقتصاديا وثقافيا. وأن معنى «الإنفتاح» هنا، هو العمل على تجسير آليات الخيار المؤسساتي، تنظيميا للدولة، الذي عنوانه الأكبر «الخيار الديمقراطي الذي لا رجعة فيه» (علينا الإنتباه أنها جملة مركزية ظلت ترد في كثير من خطب العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني آنذاك).
هذا يعني، أنها انعطافة فرضها الواقع الدولي الجديد، لما بعد نهاية «الحرب الباردة»، وأن تغيير دفة الإبحار لاستمرار الدولة، قد شكل واحدة من العلامات على حسن قراءة تلك التحولات مغربيا. وهو التغيير الذي سيجد ترجمات متعددة له، ضمن السياق المغربي الداخلي، متمثلا في محاولات تعديل فصول محورية في الدستور المغربي سنوات 1992 و 1996، وصولا إلى التتويج المتقدم أكثر لدستور 2011. ثم إصدار العفو السياسي العام سنة 1994، وخلق آلية قانونية جديدة من عناوينها حينها إنشاء محاكم تجارية ثم محاكم إدارية وإلغاء «محكمة العدل الخاصة» المعيبة بشروط «دولة المؤسسات»، وبداية تجاوز مخطط التقويم الهيكلي منذ 1996، وخلق الشروط لتحول في شكل التدبير العمومي حكوميا، له آثاره الإيجابية على المستويين الداخلي والخارجي، شكلت تجربة «حكومة التناوب» بقيادة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي عنوانه الأبرز. بالتالي، فهي منظومة تراكمية غير مسبوقة مغربيا، في كامل محيطه المغاربي والإفريقي وضمن الغرب متوسطي الجنوبي كله.
ضمن ذلك المشروع الإصلاحي الجديد، المتعدد الأذرع، الصادر عن «خارطة طريق» جديدة (اتضحت معالمها أكثر منذ 1999، مع تولي العاهل المغربي الجديد محمد السادس قيادة المغرب)، سيأتي ما يمكن وصفه بـ «المشروع الوطني المغربي للعودة إلى عمقه المتوسطي». الذي هو مشروع طموح جدا، هائل في كلفته وأيضا في نتائجه، يشكل جزء من طموح أكبر لاستعادة المغاربة (دولة ومجتمع) لدور جديد ضمن عمقهم الإفريقي والقاري، شكل الإنضمام (وليس العودة) إلى منظمة «الإتحاد الإفريقي» مرحلة حاسمة فيه سنة 2017، ولا يزال طموح الإنضمام إلى المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا، واحدا من عناوينه الكبرى أيضا.
إن قرار «العودة المغربية إلى عمقه المتوسطي»، سيجد ترجمته، في المخطط الوطني الكبير لإعادة هيكلة كل الشمال المغربي مؤسساتيا وتنمويا، من خلال إحداث مؤسسة تنمية الأقاليم الشمالية، ثم تنفيذ مشروع إصلاح كل منظومة البنى التحتية به، من طنجة حتى السعيدية، على مستوى شبكة الطرق الجديدة، على مستوى المطارات الجديدة، على مستوى توسعة جزء من شبكة السكك الحديدية، على مستوى البنية الجامعية ومعاهد الدراسات العليا أو المتخصصة، على مستوى إحداث مستشفيات جامعية (وجدة منذ سنوات وطنجة قريبا)، على مستوى البنيات الثقافية (أهمها مسرح محمد السادس بوجدة)، ثم أساسا من خلال المشروع القاري الضخم لميناء طنجة المتوسط، ومثيله الكبير الذي شرع في إنجازه قرب مدينة الناظور بمنطقة بني انصار. وأن ذلك قد تم بالتوازي مع إعادة نظر شاملة، تدرجية، في التعامل مع واقع استمرار احتلال الإستعمار الإسباني لمدينتين استراتيجيتين بالأراضي المتوسطية للمغرب، هما سبتة ومليلية، تمثل في الشروع في خلق مناطق حرة محيطة بتلك المدن المحتلة، ضمن أفق لإعادة هيكلة تنظيمية اقتصاديا لكل المجال المتواجد قربها. وليس الوصول منذ شهور إلى مستوى إغلاق باب التهريب مع كل من سبتة ومليلية، سوى جزء من تلك المنظومة الإصلاحية المغربية بكل الشمال المغربي. مثلما يشكل الوصول إلى إقرار قانون «تقنين زراعة القنب الهندي» من قبل لجنة الداخلية بالبرلمان المغربي، مرحلة أخرى متقدمة من ضمن منظومة إعادة هيكلة كل الآلية التنموية للشمال المتوسطي للمغرب، مأمول أن تكون نتائجه الإقتصادية بابا لتعويض كلفة وضع حد لكل أشكال التهريب على شرائح واسعة من أهلنا بالشمال.
بالتوازي مع هذا المخطط الإصلاحي، الذي انطلق عمليا، بشكل تراكمي، منذ أكثر من 25 سنة، شرع المغرب في إعادة تحديث منظومته الأمنية والعسكرية، التي من عناوينها الكبرى خلق الميناء العسكري للقصر الصغير، الذي أعاد ترتيب توازنات جيو ستراتيجية عدة بمضيق جبل طارق، مكن المغرب من أن يكون مبادرا من موقعه الجنوبي المتوسطي ضمن آلية مراقبة وحماية الملاحة بهذا المعبر الحيوي عالميا. مثلما بادر إلى طرح حقه السيادي في تحديد حدوده البحرية، بذات الروح المنطلقة منذ بداية الثمانينات بالبرلمان المغربي، التي تمنحه حق السيادة على عمق مياهه الدولية الإقليمية، بكل الإسقاطات التنموية والإقتصادية والأمنية والجيو ستراتيجية الإيجابية، التي تعيد عمليا إلى المغاربة نقاط مؤثرة ك «قوة إقليمية».
من سبتة
إلى الكركرات
إن من أهم نتائج الواقع الجديد للعودة المغربية إلى عمقه المتوسطي، الأثر العملي الذي خلقه ذلك المتمثل في شكل العلاقة التعاونية الجديدة التي أصبحت بين المغرب والإتحاد الأروبي وبين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية (دون إغفال باب التعاون أيضا بيننا وبين الصين). الذي يمكن التوقف عند واحد من أهم عناوينه الدالة، الذي يكاد يلخص كل الترسانة المؤطرة لشكل ذلك التعاون، المتمثل في التوقيع والمصادقة أروبيا على اتفاقيات التعاون مع المغرب تشمل كامل أراضيه السيادية، التي من ضمنها أقاليمه الصحراوية الغربية الجنوبية. فيما عنوانه الأكبر، على مستوى العلاقة الإستراتيجية مع واشنطن، يتمثل في اعتراف الدولة الأمريكية بالسيادة الكاملة للمغاربة على صحرائهم الغربية، وأنها جزء من التراب المغربي.
هنا علينا، التوقف قليلا عند ما وقع يوم 13 نونبر 2020، بالمعبر الجنوبي المغربي قرب الحدود مع دولة موريتانيا، معبر الكركرات. ذلك أن المغرب لم يضع حدا فقط لاستفزازات يائسة لعناصر البوليزاريو، ضمن حسابات غير ناضجة جزائريا (باحترافية أمنية وعسكرية لم تطلق فيها رصاصة واحدة)، بل إنه عمليا قد حرر مجالا حيويا دوليا لعبور التجارة والبشر بين أروبا الغربية وإفريقيا الغربية. وأنه بذلك قد عزز من مبادرته كقوة إقليمية بكامل غرب المتوسط وغرب إفريقيا. وهنا يكمن المعنى الأبرز لمقولة «أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس»، في اللغة الديبلوماسية الدولية. وأن الذي منح لتلك الإستعادة الإستراتيجية للمبادرة بالنسبة للمغرب على الأرض، قوة غير مسبوقة، من خلال انطلاق مسلسل لتحريك الجدار الأمني جنوبا باتجاه الحدود مع دولة موريتانيا وشرقا على طول 50 كلمترا بمنطقة المحبس باتجاه الحدود مع دولة الجزائر (على مرمى حجر من منطقة تيندوف)، هو إعلان الدولة الأمريكية الإعتراف بمغربية الصحراء الغربية، يوم 4 دجنبر 2020، وصدور ذلك الإعتراف كمرسوم رئاسي في الجريدة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية. ثم إجراء مناورات عسكرية بحرية وجوية أمريكية مغربية، شاركت فيها لأول مرة حاملة طائرات أمريكية من قوة وقيمة «حاملة الطائرات إيزنهاور» ومن قيمة المدمرة الأمريكية المتطورة جدا «يو إس إس بورتر»، التي أطلق عليها إسم «مناورات مصافحة البرق 2021»، التي مهم جدا الإنتباه أنها شملت المياه المتوسطية للمغرب عند جبل طارق ومياهه الأطلسية قرب جزر الكناري الإسباني قبالة الصحراء المغربية.
بالتالي، فإن نتائج المشروع الإصلاحي المغربي، الذي من عناوينه الكبرى عودته إلى عمقه المتوسطي (وسيكون من ضمن ملفاته التنموية مشاريع الربط القارية للغاز في المستقبل المنظور)، وكذا تعزيز عودته إلى عمقه الإفريقي، هي إعادة نظر شاملة تطورية وطبيعية في شكل علاقة المغرب مع جارته الأروبية إسبانيا، وضمنها ملف مدنه المغربية المحتلة سبتة ومليلية، ضمن منظومة تطوير فضائه المتوسطي أمنيا واقتصاديا.
إن المشكل اليوم قائم في عدم قبول، واستيعاب ربما، جزء مركزي من «عقل الدولة» في إسبانيا، أن «مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس»، ضمن صيرورة كاملة للتحول في كامل غرب المتوسط وغرب إفريقيا وشرق الأطلسي. لقد انتهى نهائيا زمن «مؤتمر الجزيرة الخضراء» بحسابات القرن 20، وأننا اليوم في بداية العقد الثالث من القرن 21. وأن حسن القراءة يفرض عليها أن تدرك أن اللعب على تناقضات التنافس والتدافع المغربي الجزائري، خاسر تماما (ليست فضيحة تهريب الرأس الأول تنظيميا ضمن جبهة البوليزاريو، إبراهيم غالي، باسم مستعار وجواز سفر جزائري مزور، إلى التراب الإسباني للعلاج، سوى جزء منها). لسبب بسيط هو أن الجزائر تعيش لحظة مفصلية للتحول داخليا غير مسبوقة، وأن طبيعة وبنية النظام السياسي هناك كلها في الطريق للتغير، بقرار من الداخل الجزائري ومن نخبه الوطنية الجديدة التي تترجم طموحاتها الإصلاحية والتغييرية شعارات مظاهرات الشارع الجزائري. وأن غدا قريب، حين ستولد الدولة الجزائرية الثانية بشروط القرن 21، ويتمنى الجميع أن يتم ذلك بأقل الخسائر الممكنة بما يضمن وحدة ذلك البلد الجار والشقيق وأمن أبنائه ضمن فضائهم المغاربي والمتوسطي والإفريقي،، أنه حين ستولد تلك الجزائر الجديدة فإن أول نتائجه هي إعادة تجسير كاملة لعلاقتها مع محيطها المغاربي بما يخدم مصالح دولها بمنطق تعاوني، تكاملي ومنصف للمصالح الحيوية للجميع.
واضح، إذن، أن المشكل القائم في مدريد، هو أنها لم تدرك مرة أخرى، أن أزمتها الداخلية سياسيا وقيميا، يحضر فيها مجددا تيرمومتر ملف شكل علاقتها مع «الأفريكانوس» بالخلفية العنصرية ثقافيا للمصطلح في الذهنية الجمعية الإسبانية، أي مع المغرب (المورو في قاموسها المتعالي). وأن تحديات الإنفصال داخلها وعودة الفكر اليميني المتطرف بها، واحد من شمالها الأروبي بإقليم كاطالونيا والآخر من جنوبها المتوسطي بإقليم الأندلس، إنما يقدم الدليل على أن تمة حاجة فعلية لجيل جديد من النخب السياسية هناك، يدرك أن حل مشاكلها ضمن التحولات بكامل غرب المتوسط وشرق الأطلسي، لن يكون أبدا بتصدير أزمتها مرة أخرى صوب المغرب. بل إن الفطنة الطبيعية لتقدير الأمور، تقتضي منها أن تدرك أن اللحظة اليوم، تتطلب التخلص من رؤية «مؤتمر الجزيرة الخضراء»، حين ترى إلى عمقها الإستراتيجي الجنوبي. فالجالسون أمامها اليوم ليسوا نخبة الفقيه محمد الطريس، بل نخبة مغربية جديدة، ابنة لزمنها، زمن حسابات القرن 21. وأن المغرب الجديد هذا، له من الأوراق المؤثرة ما يكفي ليكون شريكا موثوقا وفعالا لصالح الأمن القومي الإيبيري في كافة أبعاده الإقتصادية والثقافية والأمنية. بدليل أنه في ملف سبتة ومليلية كعنوان، لا يلتزم المغرب فقط بمسؤولياته كدولة للمساعدة في وقف مخاطر التهريب والمخدرات والهجرة السرية لفائدة إسبانيا وكل الفضاء الأروبي، بل إنه يلتزم أيضا حتى بمنح الماء الشروب لساكنة المدينتين منذ قرون، رغم إيمانه الراسخ أنها أراض مغربية محتلة سيستعيدها إليه طال الزمن أم قصر، فحبل السرة الوطني مغربيا واحد من سبتة حتى الكركرات.