ما نسيته الصهيونية وما تنساه
مصطفى خولال
1
في كل حروبها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني تواجه إسرائيل ومعها الفكر الصهيوني، وحلفاء إسرائيل من الغرب ومن العرب، سؤالا ، هو السؤال الملتهب باستمرار الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. سؤال لا أحد يطرحه، ولا أحد يجيب عنه، وهو: ما العمل إزاء مقاومة الشعب الفلسطيني؟ لقد استسلمت معظم الأنظمة العربية للأمر الواقع، وتصاب الشعوب العربية والشعوب الإسلامية من حين لآخر بما يقرب من الإحباط المتجدد، وحدها روح المقاومة في نهج الشعب الفلسطيني بقيت وتبقى ثابتة لا تتغير، بل إن هذه الروح تتجدد وتغتني وتصلب وتتوطد توطيدا في كل عدوان صهيوني على الشعب الفلسطيني. وفي كل عدوان ينتهي الصهاينة إلى لا- شيء، باستثناء ما يجيدونه جيدا في جبن لا نظير له سوى في تاريخ الاستعمارات الغربية وسياسة المحو الأمريكية، وهو: الحرق والتدمير والقتل والتقتيل والحصار والتجويع، لكن المقاومة دائما هي المقاومة، لا تلين أبدا، بل تصلد وتستحكم وتشتد وتبدع وتستفيد خبرة تلو خبرة.
جرائم إسرائيل في كل حرب تخوضها وفي كل عدوان، تجد لها دائما مساندا من قوى البطش العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا، والضمير العالمي نفسه لم يعد يتحرك سوى على لسان أصوات شريفة تصرخ وتدين هنا وهناك، ضد هذه الجرائم التي يسميها الغرب أفعالا من حق إسرائيل ممارستها للدفاع عما يسمونه أمنها مثلما يسمون مقاوميها إرهابيين. هذا علما أن الإرهابيين الحقيقيين هم الإسرائيليون ومدعموهم من أنظمة الغرب، وإنك لتجد في كل مناسبة عدوانية إسرائيلية أصواتا معتبرة من اليهود، مثقفين وحاخامات وفنانين وبرلمانيين وسياسيين من يصرخ ضد إسرائيل منددا بسياستها ومستبشعا تقتيلها للشعب الفلسطيني وناكرا انتماءها الصادق للعقيدة والثقافة التوراتيتين..
هذه المقاومة التي تُمارس انطلاقا من المناطق المشبكة بالحصار والجوع والعطش والافتقاد لأبسط مقومات الحياة العادية لم يفكر فيها أحد، لا هي في ذاتها ولا في صلابتها، ليس من قبل القائمين على رأس الدولة الإسرائيلية، ومدعميها من أنظمة الغرب، وحسب، بل من قبل من خططوا في نهاية القرن التاسع عشر لإيجاد وطن قومي لليهود. ذلك أنهم فكروا في كل الأسئلة، ووضعوا التقديرات لكل الاحتمالات، وسقط من اهتمامهم عنصر رئيسي، بل محوري، هو عنصر مقاومة شعب يسمى شعب فلسطين التاريخية. ويجني اليوم أبناؤهم وحفدتهم نتيجة إهمالهم التفكير في ذاك السؤال: مقاومة الشعب الذي خططوا لاغتصاب وطنه. وهو إهمال ثم اغتصاب يجدر بنا في هذه المقالة استرجاع مراحله كي نفهم السقطة الكبرى التي قادت اليهود بتأطير من نظرية قمة في العنصرية وفي البلاهة الفكرية: النظرية الصهيونية…والحال، كما يسطر المرحوم عبد الكبير الخطيبي الذي كان أول من انتبه، من كل مفكري العالم، إلى خطورة السؤال الذي نعالجه هنا، أنه ((«لا نظرية، يقول صهيوني، هي المأوى النهائي بالنسبة لليهود»، فالوعي الشقي لا مأوى ولا مكان له آمنين سوى إذا كان في البارنويا التي هي له)).
ففي العام 1881 اغتيل الإمبراطور الروسي أليكساندر الثاني، ووجه الاتهام إلى بعض اليهود في عملية الاغتيال تلك. فكانوا عرضة لحملات قمع شرسة لم تتوقف، مستهم كأفراد وكمجموعات بما في ذلك أموالهم وتجاراتهم وممتلكاتهم.. هكذا نشأت تنظيمات سميت ب»منظمات محبي صهيون» استهدفت اليهود حاثة إياهم على الاقتناع برجحان تأسيس وطن قومي لهم، وهو العمل الذي سيُتَوًجٍهُ تيودور هيرتزل، الصحفي المجري النمساوي الذي لم يكن متدينا أبدا، ولا ارتباط له بالتوراة ولا بنبوءات رجال الدين اليهود. فقد تضمن كتابه الشهير (( الدولة اليهودية)) الصادر في العام 1896، ما دعاه حلا لما يسمى في الأدبيات الفلسفية والتاريخية ب((المسألة اليهودية))، والتي تتلخص في فكرتين أساسيتين: 1 – تجمع اليهود ديانة واحدة وتوحدهم ثقافة مشتركة. 2 – يعيش اليهود مشتتين فيسهل باستمرار اضطهادهم وظلمهم وهو ما يحصل باستمرار ليس من قبل الدول فقط بل حتى من عموم الناس والتنظيمات، وذلك بسبب صعوبة اندماجهم في المجتمعات المتعددة والمختلفة التي يعيشون فيها. لإيجاد حل لهذه المعضلة يتعين تجميع اليهود،كل اليهود، وأنى وُجدُوا في وطن قومي يخصهم. إن اليهود ذوو عقيدة وينقصهم أن يكونوا قومية، أي ينقصهم وطن قومي خاص بهم ما دامت تجمعهم هذه العقيدة مثلما توحدهم اللغة والثقافة والشعور الدائم بالاضطهاد. هكذا فكر هيرتزل في فلسطين انطلاقا من الروابط التاريخية القديمة التي تجمع اليهود بها ثم في الأرجنتين كأرض خصبة بساكنة قليلة من أجل تحقيق حلم الوطن القومي لليهود كافة، بل فكر في سيناء في مصر التي زارها في العام 1903 بغاية محددة تتعلق بمناقشة البريطانيين والمصريين لمنحه سيناء وطنا قوميا لليهود، بل وفكر في شرق إفريقيا وتحديدا كينيا مثلما فكر في أوغندا. غير أنه حين بسط أفكاره أمام الصهاينة الآخرين اختاروا أرض فلسطين كأرض للميعاد كما يقال إنه مكتوب في التوراة.
فكر الصهاينة المؤسسون للصهيونية في كل هذا ولم يفكروا في رد فعل الكنعانيين القدماء، أهل الأرض – فلسطين – الأصليين، والذين من طيبوبتهم ونقاء النفس فيهم وشجاعتهم الأسطورية استقبلوا في أرضهم كل الديانات السماوية، لقد كان اختيارا نهائيا لفلسطين بسبب يسر إقناع اليهود بهذا الوطن.
هكذا اغتصبوا الأرض ونجحوا في هذا الاغتصاب، لكنهم فشلوا في اغتصاب الروح الفلسطينية التي ظلت بالرغم من بشاعات جرائمهم المدعمة من الغرب الجبان والشيطاني تقاوم وستظل تقاوم إلى أن يحقق الشعب الفلسطيني إرادته التي فهم بموجبها منطقها التاريخي، أي فهم أنه لا يمكن أن يعول لتحقيقها إلا على نفسه، وعلى قدراته الذاتية وحدها.
الكاتب : مصطفى خولال - بتاريخ : 25/05/2021