من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط : الرسالة 8:جمال الخط له قيمته الأصيلة

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

غيثة،
توصلت بالرسالة-العدد، كتابك المرقم مع صوره، وحتى أصواته؛ لأننا نكتب دوما بصوت مائل. نعم، إلى أين؟ نبرة الصوت تترك صداها في موقع ما بين الكلمات. مشكلة الإيقاع، والنفس، والشهيق، والتقطيع. أتذكر أن دفاتري المدرسية خلت من أي خطأ إملائي، لكن يا لها من ممسحة! كانت تقول المعلمة. مسوغ إضافي يؤكد اهتمامي بالرسم peinture: يستخدم الرسم مادة أكثر مقاومة ومناعة، واللون، ونزوعه الأكثر توحشا أحيانا، أية قوة داخلية وخارجية، تلزم للحفاظ على حساسيته المرهفة، على مستوى اللوحة. ربما نحن لا يستهوينا في الفن سوى ما يثير ذهولنا ويبهرنا. على الأقل في لحظة أولى. فبعد، الوقوف أمام لوحة مثلا، تجابه النظرة قوى الصمت وطاقاته.
أعتقد، أن كل هذا، له علاقة بشكل التخطيط la forme graphique لكتابتك. جمال الخط له قيمته الأصيلة، وتخطيطاته zébrures في صميم الحساسية. طبعا، وأنا أكتب إليك، فأنا أبدع قارئا أو قارئة. مثلك. دون تماثل أو تناظر. هبة. وعد وعهد. طبعا، ينبغي أن تقرأ aporie إحراج، وليس agonie احتضار. فبين الاثنين، تجرب الظاهرة حظها. مثل الهفوات البصرية، والأخطاء المطبعية هي لقيات ومصادفات.
أمام نص، تارة أجد فيه نفسي، وتارة أخرى أحلم أو أتيه. الزمن والانتكاس البندوليcontretemps .
آه نعم، بصدد الفن العربي المعصر، لا أعرف إذا ما كنت مجحفة (كثيرا)، لكن أنت من يتكلم عن نظرتك، ولا أستطيع الاعتراض على الكثافة. غير أنه يبدو لي، بل أنا متأكد، أن أعمالا كبرى تأتينا من هذا الفن. خذي مثلا منجز الشرقاوي (غير أن ثمة آخرون) فهو يتيح لك إعادة النظر، ليس فقط في تراث العلامة عندناla tradition du signe ، بل أيضا في توليف متفرد ذاتي وشخصي، كثيف، في بعض الأحياز من متخيلنا. دعوة للزيارة من جديد بالمناسبة. يهيئ خلال شهر أكتوبر المقبل، بمعهد العالم العربي، بباريس، أول معرض استرجاعي rétrospective كبير لهذا التشكيلي الذي لا ينسى: لوحات، رسومات، دفاتر، بالإضافة إلى وثائق أخرى (أفلام، صور، كتب مصورة). لعل هذا أمر مقصود، أن تتواجدي بباريس، تحت وميض هذه الألوان، وهذه التقسيمات المتدرجة، لهذا المنجز. سأحكي لك يوما ما، في ماذا وكيف حفزتني لقاءتي مع مختلف الفنانين، على الاشتغال على نظرت(ي) «mon» regard . بفتحه على عالم الناظرين. من هنا انبثقت فكرة مؤلفاتي المصورة: «إهداء إلى السنة القادمة» وغيره.
علمت عبر الصحافة، أنه صدر لك حديثا، نص حول الأسماء الشخصية العربية. حسنا، لتسميتي ابنتي شامة، تحدثت طويلا مع أستاذي السابق في اللغة العربية بمراكش، حينما كنت تلميذا بالثانوي. طلبت منه أن يقدم لي لائحة بالأسماء الشخصية العربية القديمة. وفي النهاية، تبين لي أن اسم شامة أكثر ملاءمة: بساطة أنيقة، رجع صدى صوتي مع كلمات أخرى. هكذا هو اسمها الأصلي من جانب الأب، مع مشاركة الأم.
أحييك في هذا اليوم الربيعي.
عبد الكبير
ملحوظة: سأسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يوم 23 من هذا الشهر. ربما سأخبرك من هناك. بلسان عبر أطلسي.


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 27/05/2021