1-التقويم ضرورة تربوية وبيداغوجية واجتماعية، وجزء لا يتجزآ عن عمليتي التعليم والتعلم و يتكامل مع كل مكونات العملية التربوية في كل مظاهرها المعرفية والنفسية والاجتماعية.
ومن التعاريف المتداولة في الحقل التربوي عن التقويم أنه (مجموعة من الأحكام التي تقيس جانبا أو أكثر من التعلم، وأنه عملية قياسية ومعيارية، تمكن من التحديد الدقيق والموضوعي لدرجة تحقق الأهداف المنشودة من المنظومة التربوية والتكوينية، وبذلك يعد (التقويم) عملية أساسية ومحورية بالنسبة لمسالة تتبع ومراقبة ايقاعات سيرورة التعليم والتكوين.. وهو– كذلك- عملية تشخص نقاط الضعف والقوة للوصول إلى اقتراح حلول لتصحيح المسار وتحسين التعلم)، ويتمظهر جانب من هذا التقويم في منظومتنا التعليمية على شكل اختبارات وامتحانات مدرسية ذات الطابع الاجمالي ، وذلك في توافق تام مع بنيات المقررات ومناهج التدريس، ومن المظاهر السلبية التي تسجل عند محاولة تشخيص نظام الامتحانات أنها لا تزال تشكل لحظة مختلفة تخلق الخوف والتوجس لدى التلاميذ والتلميذات وتنهي بعلاماتها مرحلة أو مستوى تعليميين، فالامتحانات تثير الرعب والقلق والخوف في نفوس وقلوب كثير من تلامذتنا حتى قال أحد الباحثين التربويين ( رعب الامتحانات لا يقل ترويعا عن الرعب السياسي والغذائي والعسكري والوجودي، هذا إذا علمنا أن الملايين من طلبتنا في كل الاقطار العربية يتعرضون لهذا الرعب سنويا ويكون ضحية هذا الرعب طلبة وتلاميذ يتشردون،وطلبة وتلاميذ ينحرفون، وطلبة وتلاميذ يهجرون الوطن، وطلبة وتلاميذ ينتحرون، وطلبة وتلاميذ يتشوهون، وطلبة وتلاميذ يصابون بالجنون ( النابلسي) .
2-تحظى شهادة الباكالوريا بمكانة قصوى من الناحية الاجتماعية، فهي لا تعكس فقط نجاح التلميذ في مساره الدراسي، وإنما أيضا تعكس نجاح الأسرة وفخرها بتفوق ابنها وتتويجه بتقدير اجتماعي خاص، مع فتحها منفذا على التعليم العالي، ومن جهة أخرى فهي تعتبر من الناحية الاقتصادية مصفاة للتموقع في سوق العمل، وهذه المكانة الخاصة لشهادة الباكالوريا هي التي جعلتها تحافظ على قيمتها الأسطورية ..فهي عنوان الانتقال إلى حياة الرشد ومفتاح يفتح كل أبواب المستقبل.
هذه الأهمية المسندة للباكالوريا هي ما يدخل على نفسية المتعلم القلق المستمر، حتى ولو كان من بين الأوائل المتفوقين دراسيا، فيصبح بمثابة عقاب يعيشه المترشح للباكالوريا لما يرافقه من ضغط نفسي نابع من الخوف من هذا النوع من التقويم التقليدي ( امتحان –فروض – تنقيط – ترتيب – انتقاء- اقصاء- فصل – ..) وفي هذا الامتحان غالبا ما تسود أجواء من الرهبة والقلق يفتعلها المربون والإداريون والموجهون وأفراد المجتمع عن حسن نية رغبة منهم في إثارة اهتمام المتعلمين وتحسين أدائهم، ثم يتطور ذلك إلى ضغط أسري قاهر قد يكون مباشرا أو غير مباشر، ومعه ضغط اجتماعي فتنعكس عملية العقاب هذه من عملية التقويم إلى عملية التعليم نفسها بشتى أبعادها مما يعرقل التعليم إن لم يعطله ويقتل في النفوس فرحة التعلم والاكتساب ( احمد الصيداوي).
إن هذا الخوف والقلق المصاحب للامتحانات ازداد وقعه على المترشح بسبب تهديدات فيروس كورونا الذي بعثر حسابات المترشحين والأطر التربوية وكذا الآباء وأولياء أمور التلاميذ، وهو ما ضاعف من حجم القلق والتوتر الذي لطالما ارتبط بهذه الشهادة المصيرية، فكيف أثر فيروس كورونا المستجد على التقويم التربوي عامة وامتحانات الباكالوريا خاصة ؟
في الموسم الماضي أغلقت أبواب كل المؤسسات التعليمية لمدة قاربت نصف العام كإجراء وقائي مؤقت، وكان الكل عاكفين في بيوتهم، ولأجل ضمان السير العادي للدروس عبأت الوزارة إمكانياتها لأجل تيسير التعلم عن بعد– زيادة وتيرة المنابر التعليمية الالكترونية- تعبئة الموارد المجتمعية من أجل توفير الدروس والموارد التعليمية عبر الانترنيت-اعتماد منهجيات ملائمة لتيسير عملية التعلم عن بعد- تقديم بعض الحصص الخاصة بالدعم النفسي لفائدة المترشحين لامتحانات الباكالوريا لأجل رفع مستوى الوعي بالفيروس وكيفية الوقاية منه.
لكن يبقى السؤال إلى أي مدى التزم المتعلمون والمترشحون للامتحانات بجدية مع هذا النمط الجديد من التعلم الرقمي ؟
إننا نتحدث عن بيئة جديدة حلت محل الفصل الدراسي يفترض فيها أن توظف التكنولوجيا لمسايرة التعلم الإلكتروني، إننا نتحدث عن بيوت لكل واحد منها ظروفه وإمكانياته، وهذا فعلا خلق نوعا من البلبلة لافتقار الكثير من الأسر للأجهزة الألكترونية المناسبة أو جهلها لتطبيقاتها المحمولة، وعدم تلقي الأطر التربوية والإدارية للتكوينات الخاصة بمنهجيات التعليم الإلكتروني، وضغط وكثافة الدروس عبر الانترنيت في أوقات غير مضبوطة وغير مجدولة تتيح للمتعلم مسايرتها بشكل مريح.. كل ذلك يحتاج إلى دراسة مركزة تنظر في التعليم الرقمي عن بعد وكشف آثاره وإيجابياته وسلبياته لكن الوزارة بحثت فقط عن مخرج لتجنب السنة البيضاء وضياع سنة دراسية بكاملها، فاختارت الاكتفاء بالمقروء لا بالمقرر من الدروس المنجزة في الأسدس الأول، مما يعني ان الوزارة لم تأخذ بعين الاعتبار ما قدم من دروس وموارد تعليمية رقمية، رغم أنها أخذت وقتا مهما من استعدادات المترشحين للامتحانات، كما استهلكت جزءا هاما من الطاقة النفسية والمعنوية والعقلية والجسدية للمترشحين، وهو ما عمق الخوف والقلق طيلة فترة الاستعدادات والتهيؤ للامتحان إلى أن أعلنت النتائج واستقبلها الناجحون بطمأنينة وهدوء مرجعين الفضل في ذلك إلى الجائحة التي أزاحت عنهم مارطونية المقرر؟؟؟
في الموسم الدراسي الحالي وضعت الوزارة الوصية نصب عينيها مخاوف الإصابات الوبائية في إطار الجهود الوطنية الرامية للتصدي لهذا الوباء الجائح، لكنها في المقابل لم تسمح بأن ينقطع الأطفال والتلاميذ عن التعلم(وليس التعليم فقط)، كما أشركت كل الشركاء من أجل تقديم المشورة التربوية والتقنية والصحية، وهكذا عرف الموسم الحالي تغيرات وتحولات للتكيف مع الوضع الوبائي ومنها :
تخصيص فترة من الزمن المدرسي (بين 10 و30 شتنبر) للقيام بتشخيص المكتسبات الدراسية وتقديم الدعم والتثبيت للكشف عن الثغرات المرتبطة بفترة التعلم الحضوري قبل الحجر الصحي، و»التعلم عن بعد» بعده مع تحديد أنشطة الدعم، وتعويض ما ضاع في السنة الماضية، لكن هذا الإجراء الاستباقي ما هو إلا حل تجريبي، ولم يكن ناجعا لأنه لم تراع في وضعه مجموعة من الشروط من قبيل : – تحديد الأهداف التربوية المراد تحقيقها – اختيار المحتويات الملائمة لمستوى التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة لمدة نصف عام – اختيار الطرائق البيداغوجية الخاصة بالدعم والتثبيت – وضع تصور تقويمي تشخيصي لما يتوفر عليه المعلمون من موارد رقمية وقدرات ومهارات لتنميتها وتطويرها ..لذا يحتاج الأمر إلى تجاوز هذه الإجراءات الشكلية مع الانكباب على الأساس والوظيفة.
لقد جاءت هذه الفترة الأولى بيضاء سببت في هدر زمن تعليمي وتكويني، لعدم وجود أي ترابط معرفي وبيداغوجي ومنطقي بين مقررات هذه السنة ومقررات السنة التي سبقتها في عدد من المستويات والشعب (ما هو الرابط بين مقرر السنة الثالثة اعدادي ومقررات الجذوع المشتركة «الفلسفة مثلا»- ماهي العلاقة بين مقررات الجذوع المشتركة العلمية والأدبية ومواد الشعبة الاقتصادية للموجهين لهذه الشعبة…)،هذا الوضع المرتبك سينعكس بالسلب على نفسانية الأداء عند طرفي العملية التربوية، فماذا نريد من هذا الاجراء التشخيصي، هل حشو المتعلم بالمعارف والمعلومات المتنافرة؟ أم تدريبه على مناهج التملك الذاتي وبالتدرج لتلك المعارف؟
الاستمرار في «التعلم عن بعد» بشكل مواز مع التعليم الحضوري(نمط الحضور بالتناوب أو الحضور الكلي)حتى يتضح مآل الوضعية الوبائية،وإذا كانت الوزارة قد أطلقت برامج متنوعة عن بعد إلا أن ذلك خلق جدلا واسعا لدى العائلات والأسر المعوزة في المدن والأرياف غير المتوفرة على تجهيزات وأجهزة معلوماتية أو اتصال قوي بالأنترنيت ..لذا فهذا التعليم يحتاج إلى فترة من الوقت للتكيف مع هذا النمط الجديد على المدرسين والتلاميذ وأوليائهم على السواء، كما أنه يحتاج إلى تنظيم ووضع مجموعة من التقنيات والتوجهات لتوحيد الرؤية التربوية وفق منهج يتناسب مع التعليم الإلكتروني عن بعد، وإلا فإنه سيبقى حلا تجريبيا غير ناجع ليس إلا؟
ج- اعطاء قرار فتح المدارس أو إغلاقها للسلطات التربوية والصحية والترابية بالجهات والأقاليم، ووضع بروتوكولات صحية كارتداء الكمامات والتباعد الجسدي وتهوية القاعات وتعقيمها.. لتوفير أجواء من السلامة النفسية والجسدية للمتعلمين وللأطر العاملة لكن غياب الثقافة الصحية في مقرراتنا وفي منظوماتنا التربوية والأسرية عمق الخوف والقلق، ثم الفشل في التعايش مع الوباء.
د- اختارت أغلب مؤسساتنا التعليمية العمومية نمط التعليم الحضوري التناوبي القائم على (أنشطة التعلم الذاتي والتعليم الحضوري المفوج)، ذلك لأن المرحلة السالفة من التعليم «عن بعد» شابها نقص شديد في المواد التعليمية وفي مستوى التحصيل والتقييم، وغابت عنها أساليب التدريس الملائمة لأنماط التعليم عن بعد والتعلم الذاتي على الخصوص.. كما أن نظرة الأباء وأولياء الأمور لهذا النوع من التعلم كانت سلبية مما أدى إلى إحجام الجميع عنها،
وإذا كان لهذا النمط التربوي الحضوري المفوج عدة إيجابيات كالتقليص من عدد المتعلمين داخل كل حصة مما انعكس إيجابا على مردودية التحصيل وسمح من تحقيق حد أدنى من الإنسجام بين النظام التعليمي ومختلف أساليب التقويم التي يعد الامتحان واحدا منها ( التقويم المنهجي – التقويم التعليمي- التقويم التحصيلي) إلا أنه على مستوى إنجاز مضامين المقررات الدراسية هناك صعوبة الالتزام بالوتيرة الاعتيادية لإنجاز المقرر الدراسي على اعتبار أن هذه العملية تتم بالبطء في أغلب مكونات المواد الدراسية، وخصوصا في الأقسام المفوجة، وهذا ما خلق وضعا مرتبكا انعكس بالسلب على نفسانية الأداء عند طرفي العملية التربوية، وزاد تأخر الوزارة الوصية عن تحيين الأطر المرجعية الخاصة بالمواد التي سيمتحن فيها المتعلمون ( السنتين الأولى والثانية باكالوريا) إلى غاية الأسبوع الأول من شهر ماي، ليضطر الجميع إلى تعويض الشرح والتفسير بالإملاء والالقاء والاستنساخ، وهذا مدعاة لنسف كل المجهود الديداكتيكي والبيداغوجي، فلا هدف تبقى إلا السرعة وهاجس إنجاز ما تبقى من المقرر مع الزمن المفترض لإنجازه.
هذا الوضع أخل بالتوازن بين الجانب المعرفي(المعلومات والمعارف)والجانب المنهجي التعلمي والبيداغوجي، لأن ارتفاع وتيرة إنجاز الدروس مع اقتراب الامتحانات يترتب عنه انحراف التعلم عن مساراته التكوينية ومضاعفات نفسية ضاغطة على المدرسين والتلاميذ، ولهذا فإن العملية التربوية توجه أساسا لأغراض الامتحان بغض النظر عن الأهداف المسطرة للتربية والتعليم.
وهذا الوضع المختل لم يفد إلا المؤسسات التعليمية الخاصة التي لها من الإمكانيات ما يمكن أن ترضي به زبناءها وحينئذ سيحدث اتساع في الفوارق بين العمومي والخصوصي ويغيب التكافؤ و الإنصاف
لقد ألقت ازمة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 بكل ثقلها على كواهلنا وأثرت سلبا على نظامنا التعليمي فلجأت السلطات التعليمية إلى وضع سيناريوهات وخطط استعجالية «تأهبا «لما هو أسوأ.
تم انتقلت إلى مرحلة»التكيف « مع الأزمة للتقليل من تأثيراتها السلبية إلى أدنى حد ممكن، عبر نشر حملات ممارسة النظافة العامة، وفرض الإغلاق المؤقت للمؤسسات، وتوفير التعلم عن بعد، ومع انحسار مرحلة الطوارئ انتقلت الأوضاع الوبائية إلى نوع من « التعافي «،حينئذ لجات الوزارة الى تدابير استعجالية لتعويض الوقت الضائع من الموسم الماضي، مع إحداث تعديلات على الجدول الزمني العام الدراسي( الحضور الكلي أو المفوج )، وإعطاء الاولوية للتلاميذ الذين يستعدون لامتحانات مصيرية (تحيين الأطر المرجعية). وهذه المراحل الثلاث هي من اقتراحات وتصورات البنك الدولي في تعامله مع عدد من البلدان في كل مرحلة من المراحل الثلاث : التأهب – التكيف – التعافي .
إن جائحة كوفيد 19 اعطتنا الفرصة لإعادة النظر في طريقة التقويم والكشف عن عوراته، لأن الامتحانات ليست مسألة تقنيات أو تطبيقات محايدة يرجع حق البت فيها لتقنيين مختصين بقدر ماهي أدوات تعكس بالدرجة الأولى تصورا سياسيا وايديولوجيا معينا، وبحكم هذا التصور فإنها تمكن من التصفية والانتقاء ضمن أنظمة اجتماعية تراتبية – ذ. محمد مكسي.
كما أن جائحة كوفيد 19 أعطتنا الفرصة لتجاوز التغييرات الشكلية والانكباب على المشكلات الأساسية للنظام التربوي، وتوسيع دائرة اختصاصات الأكاديميات لتشمل كل مكونات العملية التعليمية التعلمية وخاصة مجال التقويم والامتحانات من اقتراح ووضع وإشراف كامل لامتحانات الباكالوريا–(تكون جهوية) إلى إعلان النتائج، خصوصا وأننا في ظرفية استثنائية فرضتها جائحة كورونا.. إن لكل جهة خصوصيتها «الوبائية» ولا يجب أن تكون كل الجهات مرهونة بقرارات مركزية … عندئذ يمكن أن تصبح الاكاديميات خلايا حقيقية للبحث العلمي التربوي تساعد على تطوير هذا النظام التعليمي والممارسة التعليمية وليس مجرد مؤسسة تشرف على تنظيم الامتحانات وتعقد ندوات تفسيرية حول ما يتم تقريره مركزيا.
إن شهادة الباكالوريا بالأساس فيها قلق وتوتر وخوف، والظروف الاستثنائية لهذه السنة تتطلب تحضيرا نفسيا وبيداغوجيا استثنائيا للتلاميذ والتلميذات …