ما قبل الكلام المقاومة الفلسطينية وأبواب التحرير

قبل أن نستحضر أجواء وسياقات معارك فلسطينيي الداخل، المتواصلة في كثير من المدن والقرى الفلسطينية منذ أيام، وقبل الوقوف على مستجدات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعلى بعض أوجُه الجبروت الإسرائيلي، نشير إلى أن دلالة «ما قبل الكلام» في العنوان الذي وضعنا لهذه الكلمة، ينتصر أولاً وأخيراً، لفعل المقاومة الجارية في الأرض المحتلة، رغم وعيه بحدود ما يجري. فلا أحد اليوم يُنْكِر أن فعل المقاومة الذي أعاد قضية فلسطين، القضية العربية الأولى إلى واجهة الأحداث، وسَمَح لنا من جديد بفتح آمال تاريخية تُمَكِّنُنا من بناء فعلٍ في التحرر التاريخي الحامل لإمكانية التعميم والتطوير، رغم صعوبات وإكراهات السياق العام.
دعنا من البحث في الأسباب المباشرة التي سمحت منذ أيام، بإطلاق زغاريد ودموع المقاومة والتحرير في فلسطين، ودفعت إسرائيل إلى جرائم حرب جديدة في المدن والقرى الفلسطينية. فَعمرُ الأسباب المباشرة كما حصل ويحصل في الأرض المحتلة، تخطى اليوم سبعة عقود من الزمن، تَمَّ فيها التنكيل بالفلسطيني وبأرضه وآثاره بكثير من العنف. ومن الطَّرد إلى التهجير والتشريد والاغتصاب، والقتل بأعتى الصوَّر وأكثرها دموية.. حيث لم تكن الجحافل الصهيونية الغازية تتردَّد في القيام بجرائمها وبصورة متواتِرة.. فأتاحت لمن جمعت من صهاينة العالم، ما مَكَّنَهم من التوطين والاستيطان والضَّمّ والمحاصرة، وتعميم القيود الخانقة على شعب أعْزَل، وبتواطؤ دولي مُعلن ومكشوف.. لا تهمنا كثيراً الأسباب التي فجَّرت مقاومة اليوم، خاصةً وأننا نعيش هذه الأيام، أجواء الذكرى الثالثة والسبعين للنَّكبة، نكبة شعب يُعانِي من اغتصاب أرضه، سرقة منازله ومدنه وقُراه، شعب تَعَرَّض ويتعرض للنهب والانفجارات أمام أعين العالم أجمع..
نقرأ أفعال المقاومة التي يخوضها اليوم فلسطينيو الداخل، في سياق المواجهة المطلوبة دائماً، بينهم وبين من يستوطن أرضهم وبيوتهم، نقرأها كردّ فعل على مآلات القضية الفلسطينية، وعلى مختلف أشكال التحوُّل التي عرفتها في العقود الأربعة الأخيرة. فلا أحد يستطيع إنكار أن فعل المقاومة الجارية اليوم يُعيد قضية التحرير إلى الواجهة، إنه يذكِّرنا بالنكبة المتواصلة منذ أزيد من سبعة عقود، حيث يتكرَّر اليوم حصول ما حصل في النكبة، يتواصل الضَّم والهدم والطمس، تتواصل الْأَسْرَلَة، فكيف لا تنبعث شرارات المقاومة؟
ترسم أفعال المقاومة الجارية بالدم وبالحرائق، أفقاً في الفعل التحرري التاريخي، الحامل لإمكانية التعميم والتطوير.. رغم صعوبات وإكراهات السياق العام.. ننتصر في حركة المقاومة الجديدة للفعل الوطني التحرري في أبهى تجلياته، ونستعيد أشرطة العدوان والاغتصاب والاستيطان، وتزوير التاريخ، ونُعايِن الكيفيات التي تَمَّ بها تركيب تاريخ جديد بالحديد والنار.. لِنَدَع الفعل المقاوِم يتكلم، يُترجم المواقف على أرض فلسطين.. فما يحصل اليوم، تساهم تقنيات التواصل في توسيع وتعميم مساحات حضوره، حيث يستمع العالم أجْمع لنبضِ الفصولِ الجديدة من ملاحم التحرير الفلسطينية.. لِنَتَسَلَّح بالأمل الذي يمكن أن يوقف سنوات من التردُّد والخوف، مُقَابِل الانفلات الإسرائيلي المتعاظم بالغطرسة وبالأساطير الصهيونية.
يقتضي سياق المقاومة الجارية التذكير بصعوبة المعركة، كما يقتضي التنويه بالانتفاضات والمقاومات التي ساهمت في بناء معركة التحرر الفلسطيني المتواصلة. فقد واجَه الآباء كائناً استعمارياً من طراز خاص، وُظِّفَ في سياق الحروب التي انخرط فيها الغرب الإمبريالي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وساهمت أوروبا وهي تغزو العالم وتُرَكِّب خرائطه في منحه معالم محدَّدة، قامت بالتقسيم والتوزيع والخداع والانتقام والسرقة. ولم يشكل حدث النكبة سنة 48، حدث السطو وإعلان دولة إسرائيل إلا الوجه المُعْلَن والمكشوف، أما تهجير وطرد وتشريد الفلسطينيين، فقد تَمَّ طمسه، رغم أنه استعمل كقاعدة مؤسسة لدولة مسروقة من أهلها. ومنذ ذلك الوقت، لم تتوقَّف المعارك، ولم تتوقَّف الحروب والهزائم والانتصارات، تَمَّ السطو على بعض الأرض بالحديد والنار والمال، والخيانات والمكر، استعملت كل الوسائل، من التَّطهير العِرقي إلى إخلاء القرى وأحياء من المدن، تغيير أسماء الأماكن وتزوير التاريخ بالأساطير التوراتية، لإقامة دولة يهودية في فلسطين قلب الوطن العربي.
لا نفصل بَهَاءَ وقُوةَ مقاومة فلسطينيي الداخل الجارية اليوم، عن انتفاضات ومقاومات آبائهم، نضعها في سياقها، ولا نفصلها عن سِجلّ معارك الفلسطينيين المتواصلة من أجل استقلال الأرض والإنسان. إنه يعكس جوانب من تحولات القضية في التاريخ، وهي تُعَدُّ بمثابة ردّ فعل تقوم به اليوم أجيال جديدة في فلسطين، مُسْتَنِدَةً إلى معطيات وتراكمات تمنحها سمات خاصة.. إنَّها تتجه لمقاومة الغطرسة والعنصرية الإسرائيلية، فقد توهمت إسرائيل أن تداعيات الصراعات القائمة اليوم في المحيط العربي، تسمح لها أكثر من أي وقت مضى، بمزيد من تضييق الخناق على الفلسطينيين، وذلك بمزيد من الاستيطان والضّمّ، وتوسيع دائرة الأنظمة العربية المطبّعة، متناسية أن الشعوب العربية لا يمكن أن تطبع مع الصهيونية وخياراتها المتوحِّشة. وقد عملت مع حليفها الأكبر وبعض الأنظمة العربية من أجل تطبيع عربي أوسع.. ينشأ فعل المقاومة اليوم، ليقف ضد التطبيع وضد العدوان الإسرائيلي، وهو فعلٌ يعلن أيضاَ، فشلَ اتفاق أوسلو الذي جَمَّدَت إسرائيل إجراءاته منذ سنوات، مُستطيبةً سجن ومحاصرة فلسطيني الداخل.
يستوعب أفق المقاومة الجارية اليوم أولى خطوات التحرر والتحرير، إنه يستعيد أمامنا الملامح العامة للمشروع الوطني الفلسطيني، التي غَيَّبَتْها إسرائيل، وغَيَّبَها الفاعل السياسي الفلسطيني قهراً، وفي ضوء ذلك، نُقِرُّ أن ما يجري في القدس، وفي مدن وقرى الداخل، يُعَدُّ أفقاً في التحرير. ونتصوَّر كذلك، أنه ردّ فعل قوي على الانقسامات الفلسطينية وعلى الخيانات.. ردّ فعل قوي على هوان الأنظمة العربية المُطبِّعة في السِّر وفي العَلَن.. إنه أولاً وأخيراً، ردّ فعل ملحمي على تاريخ دموي من العنف الإسرائيلي القائم والمتواصل.
لا تتردَّد إسرائيل وهي تواجه حركة المقاومة الجديدة، في ارتكاب جرائم حرب جديدة تضيفها إلى سِجلِّ تاريخها الدموي، إنها لا تدرك أن الزلازل التي فجَّرت المقاومة مجدَّداً، أسقطت إلى الأبد، أسطورة الْأَسْرَلَة الهادفة إلى طمس ومحو الأثر الفلسطيني والشعب الفلسطيني، وذلك رغم كل الغارات والتفجيرات التي قام بها الصهاينة، منذ أن استوطنوا الأرض وأحاطوا المدن بالأسلاك والأسوار. إنها لا تريد أن ترى في فعل المقاومة ما يُعْتَبَر تمزيقاً لأسطورة «صفقة القرن»، التي تستعيد بمفردات أخرى حكاية «الشرق الأوسط الجديد»، التي دافع عنها صهاينة تسعينيات القرن الماضي.
تحملنا حركة المقاومة التي اشتعلت في مدن وقرى الداخل الفلسطيني، إلى تفكيك أسطورة التطبيع الهادفة إلى دمج الكيان الصهيوني في المحيط العربي.. إنها تكشف أمام العالم أن الشعب الفلسطيني الأعزل لا يزال يصنع ملامحه التاريخية، يغذِّي آمال التحرير وأفق المشروع الوطني الفلسطيني، وهو لا يزال يتعرض للقتل والهدم والتهجير، أما الخطابات الإسرائيلية عن السلام والتطبيع والاستقرار وصفقة القرن، فهي مجرد حكايات تَنْسُجُها لتمرير ما يُعَزِّز شوكتها في أرض فلسطين، ويعزِّز حُلمها التوراتي «بأرض الميعاد»..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 28/05/2021