في الرتابة …إفراغ المعنى من معناه

تضعنا الجائحة ـ كورونا هنا ـ وجها لوجه أمام الفجيعة.بسبب غياب الترياق يسود القلق والخوف والأسى والحزن.الكورونا هي هنا الوجه الحديث والغريب للموت الآن .عموما الإنسان دائما أمام احتمالين إما الحياة أو الموت .حين يكون الموت، لا يكون الإنسان وحين يكون الإنسان لا يكون الموت، وعليه أن يحيا حياته بشكل جميل ما أمكن.
أما الحجر فهو احتياط وتحرّز. وهو تدبير سياسي لمشكل صحّي. وككل التدابير السياسية تحكمها المصلحة . وهنا إذا لم تزن هذه المصلحة بميزان بيض النمل، فقد تحدث الفجيعة. الحجر الذي نعيشه الآن جاء بأوامر تدريجية وقد لاقى رفضا ومعارضة من فئات شعبية جاهلة أو مغلّفة جهلها بالدين.الحجر من هذه الناحية لا ملة له، أغلق المساجد ومنع مراسم الدفن الجماعي وكان عليه أن يمنع الأضحية، وردّ الممارسة الدينية إلى أصلها النبيل «علاقة العبد الفردية بربه». والأهم في هذا الحجر هو أنه غير سلوكنا الفردي والجماعي كلية .أودعنا بيوتنا ولم يعد تركها ممكنا إلا عند الحاجة القصوى . هذا الانصياع ـ وهو عصيان مقلوب ـ لم يكن ممكنا بدون هذه الجائحة. وهو انصياع إكراهي وليس إراديا، سواء بخوف من الفيروس أو بخوف من السلطة .
وضعنا أنفسنا في سجن اختياري. وكان علينا أن نتكيّف مع الحجر وأن نبدع الأشكال المختلفة للحد من طغيان الملل والروتين والتكرار والضجر والقلق عبر الواقع الافتراضي مع الآخرين، وفي ما بيننا داخل الأسرة.
الحياة في حد ذاتها مملة .الحياة الوجودية عبثية . استعارتها «حجرة سيزيف» الدالة على التكرار الوجودي الممل والرتيب. لكن الإنسان استطاع أن يستبدل هذا «التكرار الوجودي» بالاختلاف..اختلاف أوجه حياته، يرتاد المقاهي والحانات وقاعات السينما واللقاءات الثقافية والمعارض الفنية المسرحية والتشكيلية فينسى تراجيديا وجوده. والآن وقد حرم من كل هذه الترفيهات، فهو يعود إلى ذاته وحياته الوجودية المملة. يعود إلى مواجهة السؤال الجذري الأول والشاسع: ما معنى الحياة ؟ أليس الموت أفضل من هكذا حياة ؟ بعبارة هايدجر:» لماذا هناك الوجود (الحياة) إذن وليس هناك بالأحرى لاشيء (العدم والموت)؟
إنه سؤال أول لأنه لا يقف عند أي موجود محدد، بل يسأل عن أصل الوجود وبدايته. كيف بدأ لأول مرة ؟ إنه سؤال شاسع لأنه يهمّ كل شيء بما فيه اللاشيء (العدم) لأنه مجمد فارغ، وهو سؤال عميق لأنه يبحث في سؤال لماذا؟ أي عن السبب البعيد والغميس .
في بحر هذه الميتافزيقا التراجيدية، يعود بنا « اليومي» بمختلف مستوياته وتعدد دلالاته إلى «يومي» واحد يتكرر تقريبا بنفس الوتيرة. الإحساس بهذا التكرار يمكن نعته بـ»الرتابة».
لغة ، الرّتابة كلمة تقابل لمونوطوني، الزمان الرتيب هو الواحد الثابت . والروتين تفيد النمطية..الرتابة نمط متكرر لا يختلف ولا يتعدد، فهو نفسه في «إنيته»، وبالتالي الرتابة هي مراوحة الذات لنفسها.
أمام الأحاسيس والمشاعر المترتبة عن هذه التحديدات، ولمّا تتحول إلى وعي يلف الإنسان نفسه في ورطة وجودية تذكرنا بعوالم كامو(كاليغولا، سيزيف) وعوالم كافكا الكابوسية (التحول البشع) وعالم «اللجنة» لصنع الله إبراهيم و»الغثيان» لسارتر…
في مثل هذه العوالم، الفلسفة لا تسهل مأمورية التحليل التأويل ولا تبسّطها بل على العكس من ذلك تجعلها صعبة وثقيلة، وذلك لأن جوهرها كما يقول هايدجر» هو تعقيد الأمور وتأزيمها» ( ص 23مدخل إلى الميتافزيقا) لماذا ؟ لأن التعقيد هو الشرط الأساسي لولادة ما هو كبير. ولا ينبثق ما هو عظيم إلا بالإلحاح في التساؤل.» إننا نسأل في ما وراء ما هو كائن ، في ما وراء اليومي»(ص25 نفسه).
في الإلحاح والتمادي في ما وراء الأشياء، تكمن صعوبة الفلسفة بله استحالتها .استطاع الأدب التعبير بعمق فني عن رتابة اليومي في التكرار الأبدي لحمل الصخرة، وفي التحول الغرائبي للإنسان إلى حشرة وفي المهمة الغريبة المريبة للجنة . كذلك تستطيع الفلسفة أن تسائل اليومي الرتيب بمواجهته بإشكالية المعنى التكرار واللايقين والمآلات.

سؤال المعنى:
وضعتنا رتابة الحجر رأسا أمام سؤال المعنى، والبحث عن دلالة ما يحيط بنا. ما هو فيروس كورونا ؟ لماذا الحجر؟ ما مسؤولية الإنسان في وضعنا هذا ؟ الرتابة تخشى مغامرات العقل المتسائل تحمّل السؤال مغبّة الاختلاف والخروج عن النظام وما هو معتاد.لأنها تسطيح للمعنى وتنميط له.والمعنى هو عادة المخرج الوحيد من أعتى المآزق وهو الخلاصة الروحية لمعاناة الإنسان. إنه الاتجاه الذي يوجه المرء نحو غاياته… ومستقبله. الرتابة لا اتجاه لها فهي تراوح ذاتها حتى المسخ دون آفاق، ولا يمكنها والحالة هذه سوى إفراز فراغ المعنى لأن قوة الرتابة كتكرار تكمن في إفراغ المعنى من معناه، لذا تجد الإنسان نفسه دائما في نفس المرتبة الرتيبة.

إشكالية التكرار:
لكي تحافظ الرتابة على هدوئها لا بد لها من تكرار ذاتها. إلا أنه تكرار كسيح. التكرار الإيجابي «كالعود الأبدي» ودوران الليل والنهار، رغم تكراريتهما استطاع الإنسان أن يستنبط منه دروسا وقوانين. العود الأبدي ليس كسيحا ولا تعاقب الليل والنهار لأن حركيتهما لا تكرر نفسها، بل تسير إلى الأمام وكأنها تنشد هدفا هو التقدم والسير قدما. التكرار الرتيب يعيد نفسه فقط دون معنى . يشعر فيه المرء بفراغ في المعدة. بفراغ في الدماغ ..وفي الأيدي. روتينية الزمان الكسيح هي دراما حالة الحجر.وما التكرار سوى لعب يمكنه أن يتداعى إلى ما لا نهاية له يبدو كالحلقة المفرغة التي تجتر نفسها بدون معنى ولا محتوى .
على الإنسان الحداثي أن يسائل كل هذه التراجيديا، وأن يستخرج منها ما به يمكن تجاوز الرتابة ورداءتها. ولا يتحقق هذا التجاوز إلا ب»قفزة» تخرجنا من دائرية التكرار وتفاهة الرتابة وجدران الحجر.

إشكالية اللايقين:
في الرتابة هناك يقين واحد هو «أن غدا سيكون كالبارحة». نمطه واحد.لكن وهو يكرر نفسه يأخذ صفة الضجر إلى حد الغثيان.»حيث تجد مفارقة الروح ذاتها غير قادرة على أن تصير ما تفرضه الصيرورة عليها لأنها تبقى عالقة إلى عجزها الخاص الذي تقتضيه الرتابة» (ليفيناس.عن الفرار). حركة الرتابة حركة مغلقة في حين صيرورة الحياة سيرورة منفتحة ..الرتابة باتت حجرا يؤشر عليه فيروس كورونا وكأننا أمام اختبار» نهاية العالم»، حيث أصبحنا في حاضر لا حضور له وتحت تأثير نوستالجيا الماضي بذاكرة مثقوبة ومستقبل بدون أمل . لم يبق لنا سوى العيش كما اتفق وانتظار الموت في عالم غابت عنه الآلهة وادلهمت فيه المعاني وغطّت على جدّيته قبلا الرداءة المقلقة.
يقين الرتابة هو نتاج الفكر الضعيف الواهن.. هو انتظارية توالي حلقات الزمان النمطي. حين نتخطى هذه النمطية ونغض الطرف عن الفكر الواهن، تنفتح أمامنا أبواب اللايقين على مصراعيها. هذا الأخير هو الآفاق الرحبة للتأمل الفلسفي، لمّا نحرم منها فإننا نحرم من جزء من إنسانيتنا. مقابل ذلك يقول هايدجر: «ما يمكن للفلسفة أن تكونه وعليها أن تعوده، هو انفتاحها الفكري على آفاق ومسالك من المعرفة تمكّن شعبا من إدراك وجوده وتحقيقه في عالم روحي ممكن .»(مدخل إلى الفلسفة.ص23).. يقصد روح وآفاق اللغة في ما أعتقد.

المآلات :
ليس هناك إلا مآل واحد. الحياة حتى الموت. فلا الحجر ولا وباء كورونا قادران على تغيير مسار هذا المآل ، بل يؤكدانه ويسرعان به. لكن بين الحياة والموت، هناك مآلات عدة :أولها أصل الحياة ومبتدأها . لا يزال هذا المآل الأصلي غامضا وغير معروف تماما، «يجب الذي يجب». وهناك مآل النهايات. هل ستكون نهايتنا بانطفاء الشمس؟ أم ستظهر شموس أخرى؟ هل الموت هي النهاية أم هناك حيوات أخرى؟ مازالت سيرورة العلم في بداياتها. وهناك قبل حيوات الناس ومآلاتهم، انبعاث حضارات وأفول أخرى وما الناس سوى لبنة من لبنات الحضارات التي ستخبو بدورها.
قصارى القول:» ألاّ تنتظرك لا جنة ولا نار، معناه أنك محروم بطريقة لا تطاق من كل شيء في هذا العالم المسطح». كما قال ج . شتاينر.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 28/05/2021