حكاية لوحة: «جولة عروس في الجوار» للتشكيلية المغربية فوزية ابراهيم

الملاحظ  أن أعمال الفنانة التشكيلية المغربية فوزية إبراهيم لا تخرج عن المألوف بفعل واقعيتها التي تستمد تفاصيلها مما ترصده العين، إلا أن هذه اللوحة تحمل طابعا  خاصا، يتسم بالبساطة وعدم التكلف. لقد خرجت للعلن بصيغة المؤنث، وبأسلوب تشخيصي يقوم على الاقتصاد في اللون ، و تثبيت العناصر وفق منظور فطري لا يخضع لأي مقياس، مفعمة بالمشاعر على قلة عناصرها، فهي واضحة المعاني ،وفي منأى عن تلك الرمزية التي قد تخلق اللبس والإبهام، تحمل في ثناياها زخما ثقافيا واجتماعيا، يطفو على السطح من خلال صورة امرأة واقفة أمامنا بهامتها وشموخها ، تنظر إلينا بثقة، تبدو وكأنها خارجة من بيتها على التو، يشير إلى ذلك الباب الخشبي الذي ترك مفتوحا خلفها. فالتشكيلية أبت إلا أن تنقل ذلك الحدث بزمانه ومكانه بدون أي تحويل قد يفقده واقعيته، ويأخذ من تلك المحاكاة  إثارتها ووقعها على النفوس، فتصبح العناصر عبارة عن مفردات جوفاء مسقطة بتلقائية تخلو من أية دلالة، وهي التي تضفي صبغة تعبيرية على القماشة إلى جانب تضاد لوني يخلق الفرق والانبهار، وضوء لا يترك للعتمة حيزا أكبر، وذلك ما يمنح  دفء الحياة لفضاء يحتضن بورتريها بكل تفاصيله وأبعاده، وحمولته الفنية.حمولة تصنع كتلة مركبة من نصفين متماسكين،الأول يتعلق بجزئه الأعلى، والثاني تم توضيبه على شكل ثوب فضفاض،عبارة عن استعراض جريء لخاصيته المرتبطة بالمرأة في بعض المناطق من المغرب، وبالتحديد في مدينة فجيج  العريقة، حاضرة النجود العليا، حيث المقام الدائم لهذه الفنانة العصامية، العاشقة للرسم، أحبته بشغف في صغرها والتصق بها منذ سن التاسعة ، وقد ضحت بدراستها الجامعية من أجله، خاصة وأنه كان هاجسها الوحيد الذي وجدت فيه ضالتها، حيث مكنها من الانطلاق ،ومغادرة عالمها الضيق والمنغلق، والتحليق بعيدا في عوالم أخرى أكبر مساحة عبر معارض فردية وجماعية،أتاحت لها فرصة التعريف بأسلوبها  الفني.
إن المتابعين لأعمال فوزية ابراهيم يعرفون حق المعرفة تجربتها الواسعة في مجال البورتريه النسائي على الخصوص. فهذا الوجه المعروض أمامنا لا يدل على حالة فردية، بل هو نموذج للعنفوان ، تبدو نضارته واضحة للعيان بفعل إضاءة كاشفة لا غموض فيها، تحيط به قطعة من الحايك، وهو لباس تقليدي مكون من قماش سميك أبيض، يحيل إلى الهوية، ويمنح المرأة الشابة الوقار وأنوثتها دون إبراز مفاتنها تجنبا لأي إغراء قد يفقدها مهابتها ولايضعها في مكانها الذي تستحقه كرمز شامل للحضارة،حيث أن المبدعة حرصت على ألا تبقى هنا مجرد فرد، بل اختزالا لعادات المنطقة، وتراثها وموروثها الثقافي،وإعادة الاعتبار لزي تقليدي بدأ يندثر مع مرور الزمن، والعمل على استرجاع  مكانته وقيمته الأصيلة من جديد، و من خلاله استحضار تلك العروس التي كانت ترتديه عند الخروج من بيت والديها، ومن هنا جاءت  هذه اللوحة باسم «جولة عروس في الجوار» لكي تكون معبرة ولا تأخذ صبغة فولكلورية محضة، تنسينا بعديها التاريخي والثقافي إلى جانب البعد الجمالي.
كل ما نراه في اللوحة يذكرنا بتراث مجيد وما بقي من الماضي.لباس محلي أبيض ، لإبراز قيمته المادية ، جاء يناسب جسدا يبدو أكبر من حجمه في واجهة تصنع الحدث، وباب تقليدي يشكل خلفية تغلب عليها القتامة بفعل لونه البني الغامق الذي يستمد قوته وصلابته من خشب الزان ، وتماسكه من جذوع النخيل. خلفية تشعر بها ضيقة جراء سواد يبدو كثيفا داخل بيت غارق في عتمة، بقيت عالقة في  الخلف،وراء ظهر امرأة  في مقتبل العمر، لكنها مع ذلك فهي ربة بيت، يدل على ذلك المفتاح المشدود إلى خصرها، وأحمر الشفاه الذي يظهر احمراره على شفتين تقسمان فمها المغلق إلى شطرين متباينين، يذكران بفئتين من الناس، فئة تنظر إلى  المرأة باحترام وتقدير، وتعتبرها نصف الرجل وفئة تزدريها، ولا تنظر إليها إلا  كمشروع أم يضمن الاستمرارية، طبعا يمكن قراءة كلامها المسكوت عنه في نظرتها المعبرة ، المستوحاة من نظرة الموناليزا والتي توحي بأنها  تواقة إلى أشعة شمس تسقط تلقائيا على ردائها الجميل، وتطبعه بصفرة، تستلهم نصاعتها من ضوء طبيعي ، يصنعه الأكريليك وذلك ما يزيده بهاء ورونقا. وهذه الثنائية المشكلة من النور والظلام هي التي تمنح البعد الاجتماعي لهذه اللوحة، وتعكس أفكار فنانة حداثية مقتنعة تماما بما تقدمه منذ بدء مشوارها  الفني في هذا المجال.فكل رسوماتها لها طابعها المتفرد، وبصمتها الخاصة، فهي بمثابة  تفاعل صادق مع ما ترصده عينها، فكل ما ترسمه أناملها على اللوحة مستوحى من أجواء فجيج الحافلة بالتقاليد والأعراف، وطباع موغلة في التاريخ، تنهل منها للتعبير عن أفكار تأتي على إيقاع العصر، ولذلك جاء هذا البورتريه بصبغة محلية.إنه جوكاندا فوزية ابراهيم الفجيجية،تم توظيف هذا البورتريه للوقوف عند القيم التراثية الأصيلة بواسطة تقنية،تعتمد على ضربات فرشاة غير عنيفة، تتحرك بعناية فائقة على قطعة القماش، لاستغلال المساحات جيدا وتفادي انسياب الصباغة بين تراكيب خطوطية حسية، يربطها باللامرئي خيط رفيع يتعلق بالوجدان، يجعل المتلقي يشعر بالمتعة وهو أمام  قماشة تسترجع بطريقة النوستالجيا ما تزخر به هذه المنطقة الشرقية المغربية من مرجعيات متنوعة شرقية و أندلسية إسلامية، يختزلها حايك يعتبر المحور الذي يأخذ المساحة الكبيرة داخل الفضاء، تمت صياغته بنمط فني دقيق،غير بعيد عن  وحشية، قوامها التبسيط في التشكيل والشدة اللونية والتضخيم، لذلك يمكن الانتباه بسهولة إلى جزئيات لا يمكن تهميشها، سيما تلك التفاصيل الدقيقة التي تكشف على أنه لا يتم استعماله إلا بطريقة الشد واللف دون الاستعانة بأي مشد أو مشبك وذلك ما يبعث على التملي بجمالية هذا اللباس في حد ذاته وبطريقة ارتدائه،خاصة وأن المبدعة تناولته بواقعية تعبيرية، فيها الكثير من الإبداع والخلق،بعيدة عن تلك الواقعية المفرطة التي تنقل الأشياء بأحجامها وفي صورتها الحقيقية دون أي تصور، مما يحد من خيال يكون دائما أروع من الواقع كما يقول الكاتب المصري مصطفى أمين.
إذا أمعنا النظر في هذه اللوحة المشبعة بالإيحاءات، سنستشف شيئين مهمين كذلك: الأول متعلق بصورة ، مظهرها مسطح لا يلفه الغموض، يخلو من الفجوات والأخاديد، يعطي الإحساس بعدم الثبات في الزمان، وإن كان لا يسع، كما يبدو، إلا لامرأة تتلفع بملاءة تأخذ حيزا أكبر من اللازم،تم التركيز عليها لخصوصيتها في هذه المنطقة المغربية، فهي رمز للحشمة والدلال، وهي التي تميز المرأة المتزوجة،والثاني له ارتباط بالعمق، يأخذ طابعا توثيقيا يحيلنا إلى الصورة الفوتوغرافية التي تقرأ بطريقة عمودية، مما يجعلنا نتأملها على أيقاع الحنين الذي يهز مشاعرنا. فالقاسم المشترك بينهما طبعا هو تلك المكانة المعتبرة في توثيق الحدث والفكرة، واسترجاع اللحظة،ومن خلالها تلك الحالة التي كانت تعيشها المبدعة وهي تشتغل على تيمة تعد بالنسبة لها مصدر فخر واعتزاز، وصلة وصل بين الماضي والحاضر.


الكاتب : ذ.عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 01/06/2021