قصة : مع المبدع منصف صدقي العلوي..

في القبض على عوالم الكشف الروحاني

 

لا تخطئ عين المبدع منصف صدقي العلوي موعدها مع التاريخ. ولا تفتقد ملكته الفنية لحاسة القبض بجزئيات العطاء والتفرد داخل نسق الممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة. لقد استطاع هذا المبدع التأسيس لعناصر فردانياته وحميمياته المخصوصة التي صنعت حصيلة منجزه الإبداعي على امتداد فترة زمنية ممتدة، بحثا عن مواده التأملية، وفحصا في مضامينها الاسترشادية، وتفكيكا لرموز المحيط والوسط الحي الذي ظل يتفاعل معه إنتاجا واستثمارا وتوظيفا لمكونات خصوبة هذا المحيط والوسط. وقد عزز ذلك، بالإسهام في تطوير الدرس الجامعي المتخصص، من موقعه كشاعر وكفنان تشكيلي، وكأستاذ باحث في قضايا الفن والسياحة الثقافية برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء.
ويعتبر تجميع المتن الشعري والنثري الذي أصدره المبدع منصف صدقي العلوي تحت عنوان «كشف روحاني»، باللغة الفرنسية، سنة 2016، في ما مجموعه 42 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، تعبيرا عن التجليات العميقة التي سكنت شخصية المبدع، من خلال الانتقال نحو رحابة التعبير الشعري والنثري قصد توظيف هذا المتن في التعبير عن ما لا يمكن التعبير عنه بلغة الألوان والأشكال والأجسام والأبعاد داخل حدود فضاء اللوحة التشكيلية.
يقدم هذا الإصدار عمقا شعريا مضخما ببعد تشكيلي واضح، حيث تحضر الأدوات التقنية وتطغى سلطة اللون الأزرق على الاستعارات اللفظية، في تناغم فريد بين عين اللوحة من جهة أولى، وبين أذن القصيدة من جهة ثانية. وكأني باللون الأزرق يقفز من بين أضلاع اللوحة التشكيلية، ليضفي هالته الأنيقة وجاذبيته المثيرة على لغة الشاعر، وعلى ذوقه المرهف وعلى نفسه الإبداعي.
لقد نجح المبدع منصف صدقي العلوي في إعادة الروح الى عوالمه الروحانية العميقة، موظفا كل تراكماته في التكوين المعرفي وفي الافتتان الجمالي وفي الاندهاش الصوفي الأخاذ أمام متع الجمال، وأمام عناصر «صناعة» هذا الجمال وأمام أبعاده الإنسانية الخالدة. في هذا الإطار، يحضر درس التاريخ كحلقة موجهة لنظيمة الإبداع، بشكل يتجاوز المنحى المدرسي التلقيني النمطي، إلى مستوى إدماج معالم الفكر والإبداع الإنسانيين داخل علاقات الخلق والإبداع لدى المبدع منصف صدقي العلوي، مثلما هو الحال مع أشكال توظيفه لمعالم من التراث الفكري والثقافي الخالد الذي راكمته البشرية في سياق تطوراتها التاريخية الطويلة المدى. دليل ذلك، حضور رموز وأساطير وأعلام ومرجعيات داخل متن الكشف الروحاني لمنصف صدقي العلوي، جسدتها شخصيات مثل آدم وحواء (ص. 14)، وسيزيف وبوسيدون وابن رشد (ص. 35)، وروسو ودافنشي وبودلير وكامي وكادنسكي (ص. 36)، وكانط (ص. 37)،…
استطاع منصف صدقي العلوي الاحتفاء ب»الحب الكبير» (ص. 36) الذي ظل يحمله الإنسان في بحثه المستدام للقبض على الجزئيات التي لا تلتفت لها العين المجردة، في سياق هيامها الصوفي بعوالم الكشف وبأسرار التماهي وبمدارج الحلول، وبمراتب التخلي والتحلي ثم التجلي. لا يتعلق الأمر بتمارين مدرسية، ولا بقوالب تنميطية، ولا بنزوعات تنظيرية تتكيف مع انتظارات الرأي العام، بقدر ما أنها استيهامات صوفية تمتح موادها المهيكلة من صميم نزوات الذات ومن شغفها بتوسيع دوائر تأثيث زوايا العين والأذن واللسان بجمال فعل الإبداع والخلق والتجديد. هي تجربة مخلصة لذاتها، وفية لوسطها، منفتحة على تشريح تراكم معرفي وجمالي هائل طبع حقل الممارسة التشكيلية في علاقاتها المتداخلة بعوالم السرد العجيبة، نظما ونثرا.
يحضر التاريخ قويا في نصوص منصف صدقي العلوي، وتحضر الأساطير والتراث الرمزي كحوافز قائمة لتفعيل التخييل المنفتح على رحابة الحلم. وتحضر المعرفة الفكرية والفلسفية والعلمية كبوصلة لتخصيب أدوات العطاء، ولترشيد آليات تصريف هذا العطاء في اللوحة وفي النص الشعري والنثري. وقبل كل ذلك، تحضر العين الثاقبة كملكة لا تتوفر للجميع وكوسيلة لالتقاط ما لا تلتقطه الحواس الاعتيادية داخل الوسط الضيق للحياة اليومية، وداخل آليات التواصل الاعتيادية.
تستطيع عين المبدع منصف صدقي العلوي المفتتنة بمعالم الجمال في وسطها الحي، أن تستكمل أدوار أذنه الوفية في الإنصات لمعالم التغير و»لضجيج الهدوء» و»لصمت الصخب» داخل كل ما يعتمل داخل حياتنا الجماعية، أو لنقل داخل ذاكرتنا الجماعية، قبل صهر كل ذلك داخل معالم هوية ثقافية وبصرية وجمالية راقية، هوية واحدة بتعبيرات متعددة وبآليات مختلفة، وبفردانيات تخلص في الدفاع عن حق الفرد في الانتشاء بخصوبة المحيط وبعناصر صناعة الجمال وبإنتاج الرموز المادية والمجردة الكثيفة والمتداخلة.
هي صورة أخرى للعالم، تصنعها عين المبدع المخترقة لرتابة «اليومي»، وتخيطها «لغة» الأديب الشفيفة، وتؤثثها قيمه الجمالية والتاريخية المرتبطة بجهود أنسنة الذات والموضوع، الأنا والآخر، الثابت والمتغير في كينونة الإنسان، اليوم وغدا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 01/06/2021