المغرب والآخرون أو جوار السهل الممتنع
مصطفى خولال
لا يكن المغرب العداء لأحد. لم يحدث أن اعتدى المغرب، في كل تاريخه، على أحد من جيرانه. هذا ما يمكن أن يقف عليه المؤرخ ويشحذ ذهن المفكر الموضوعيين. وباستثناء لحظات الضعف التي أدت إلى حدث الاستعمارين الفرنسي والإسباني، فقد سار المغرب على الدوام على إرث جليل يتميز بالحزم في كل مرة يحصل فيها انتهاك منطق الجوار فتُتَنَاسى روابط الصداقة.
وهو ذا ما حدث بالضبط بخصوص العلاقات المغربية الإسبانية. لم ينظر المغرب ككل، الرسمي والحزبي والشعبي، إلى واقعة استقبال زعيم انفصالي لا يعادي وطنه فقط بل ارتكب ويرتكب جرائم محرمة دوليا. صحيح أن استقباله تم باسم مستعار وجواز سفر مزور، لكن هذا كان ينبغي أن يستشار فيه المغرب باعتباره معنيا بالموضوع، وبلدا جارا، فضلا عن كونه صديقا وشريكا اقتصاديا كبيرا، ومن الثابت أن يوسف بن ناشفين، حين هب إلى الأندلس لنجدة المسلمين الذين أرسلوا إليه الرسائل تلو الأخرى، لم يفعل ذلك بوازع الرغبة في الاحتراب، بل لنصرة المظلومين، وكان الفونسو السادس قد استنجد بكل جيوش أوروبا ولم يستعن يوسف بن تاشفين، الذي كان على رأس إمبراطورية حقيقية، بأي جيش من جيوش المسلمين.
وحين عبر المغاربة غرب المتوسط لم يحملوا معهم الهدم والتنكيل والحصار والقتل والغصب، وإنما حملوا معهم روح الاقتتال بشرف من أجل السلم، وهو السلم الذي كان متبوعا بالعطاء الحضاري للمغرب على النحو الذي يعترف به مؤرخون وفلاسفة وفنانون ولغويون بل وفنانون إسبان موضوعيون. لكنك لو سألت اليوم التلميذ الإسباني عن هذا العطاء الذي لا ينتمي للمغاربة خاصة والعرب المسلمين والعرب اليهود عامة، وإنما ينتمي بقوة الواقع التاريخي، إلى الأندلس، أي إلى إسبانيا، لَمَا عرف معلومة واحدة تخص ذلك العطاء- ذلك الميراث التاريخي المشترك- والأمر عكسه تماما لو سألت التلميذ المغربي خاصة والعربي عامة. وهو النهج الإسباني سواء كان يمينا أو يسارا، المُتَبَنًى من قبل صانعي الوعي الجمعي الإسباني بعد التاريخ المعلوم من القرن الخامس عشر.
وإذا كان لنا أن نحذر التعميم الذي ترفضه الحقائق الموضوعية ، فإني لأذكر هنا واقعتين عشتهما وأنا ضيف على إسبانيا. تتعلق الأولى بموضوع احتلال إسبانيا للمدينتين المغربيتين، سبتة ومليلية، قال محاوري الإسباني، وهو على مستوى متواضع من التعليم والخبرة السياسية نفسها: هل سبتة ومليلية إسبانيتان أم مغربيتان؟؟. ولأني كنت ضيفا في بيت الرجل، قلت له بما استطعته من دبلوماسية الضيف: أراك لم تسألني عن تطوان أو عن أغادير، ولكنك سألتني عن سبتة ومليلية تحديدا، لو كنت لا تعرف أنهما مغربيتان ما سألتني عنهما. وقال الرجل في شبه استقواء: ولكن، لعلك تعلم ما فعلته إنجلترا بخصوص جزر المالوين، وماذا كانت عليه الهزيمة النكراء للأرجنتين. قلت لصديقي الإسباني: بل أعلم، وإني لأذكر الحرب التي تشير إليها بل وأذكر حتى تاريخها. غير أنه يؤسفني أن أقول لك وآمل أن تعذرني، إنه إذا كانت إسبانيا هي انجلترا في المثال الذي أسأت الاختيار فيه، فإن المغرب ليس هو الأرجنتين…هذا دون أن أذكر لك أن مغرب مولاي عبد الحفيظ ليس هو مغرب الحسن الثاني ولا هو مغرب محمد السادس. . والفرق هو أشسع من أن تدركه عقليات أكلت عليها الدهور وشربت.
وأما الواقعة الثانية فتتعلق بمناقشة طويلة حول تاريخنا المشترك، بسلمه وبحضارته وحروبه التي نأسف أنها واقع من تاريخنا. تلك المناقشة التي دارت بين شباب مغربي وشباب إسباني. لن أنسى ما حييت هذه الواقعة التي أخرجت فيها شابة إسبانية بعينيها العربيتين السوداوين وشعرها الناعم الأسود المنسدل على كتفيها طويلا يكاد يغطي كل ظهرها. . . أخرجت صورتين فوتوغرافيتين من حقيبة اليد النسوية، وقالت أنظر إلى هاتين الصورتين: في الأولى صورة والدي، أمي وأبي . وفي الثانية صورة مفتاح . مفتاح كبير جدا. إنه مفتاح منزل أجدادها البعيدين، العرب المسلمين، والذين أخرجوا من ديارهم. وقالت الفتاة الإسبانية: هاتان الصورتان أحملهما معي دائما نظرا لقدسيتهما عندي.
وبعيدا عن هذا كله، يحق لنا قول نفس ما قاله الملك الراحل، الحسن الثاني، بتحوير بسيط، وهو يجيب صحفيا غربيا، إننا نعرف الكثير عن الغرب، ولكن ماذا يعرف عنا الغرب خارج ترهات اليمين المتطرف الذي لا يعي، ويا للأسف، أن الجهل بالآخر جزء من عقيدته.
ولْيفحص الملاحظ لغة الإسبان فَيَصْدِمْه العدد الهائل للألفاظ العربية في اللغة الإسبانية، دون الحديث عن أسماء المدن والأنهار بل والأحياء السكنية ذاتها. وهو أمر لا يعيب الإسبان، بل كان ينبغي بوعي آخر أن يكون مفخرة تقوي وئاما مؤملا للجوار السهل الممتنع.
لذلك فإن أهل الفكر، سواء من ذوينا نحن هنا في الضفة الجنوبية الغربية للمتوسط أو من الإسبان، لا يستغربون طبيعة ردود الأفعال التي تصدر من حين لآخر عن اليمين الإسباني المتطرف بخصوص أي حادثة مهما صغرت، تتعلق بالعلاقات المغربية الإسبانية، غير أنه في ما يخصنا استغربنا بل وأدهشتنا ردود أفعال هي ذاتها جاءت هذه المرة من يساريين يقود تحالف لهم الحكومة الإسبانية الحالية.
لكن أصدقاءنا الاشتراكيين الإسبان مهما ارتدوا من رداء يبدو معاديا لبلادنا تحت ضغط ظروف نتفهمها بل ونفهمها، إلا أن ذلك لا ينسينا المواقف الرصينة التي عبر عنها كبار الاشتراكيين الإسبان وقادتهم التاريخيون من قضية المغرب المقدسة، قضية الصحراء الغربية المغربية، والتي ذهبوا فيها بعيدا، بعيدا بالمنطق الإسباني، وذلك حين أسدوا النصح للانفصاليين بأن يقبلوا بالحل المغربي، حل الحكم الذاتي الموسع، وأنهم إن لم يقبلوا به فإنهم لن يجنوا شيئا من وراء سياسة الجزائر التي تتجاوز عدوانية رؤسائها وبكثير عدوانية الجار الشمالي، ولقد كان ذا دلالة أن الاشتراكيين المغاربة بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حين أصدروا بيانهم الاستنكاري الأخير من مستجدات الوضع في المنطقة، لم يُحَملوا تبعات المواقف الأخيرة سوى لمن يستحق تحملها.
الكاتب : مصطفى خولال - بتاريخ : 01/06/2021