هل يوفر المغرب شروط قيام مجتمع المعرفة؟ 2/1

 

تحتل الأبحاث حول الكتاب والقرائية حيزا كبيرا ضمن دائرة النقاش الدائر بين الباحثين في المغرب؛ حيث صد العديد من الأبحاث والدراسات أولت اهتماما كبيرا لهذا الموضوع نظرا لما يمثله الكتاب والقرائية من أهمية معرفية وثقافية وفكرية في المجتمعات الحديثة؛ سيما بعد انتقالها إلى مجتمعات المعرفة الرقمية والتواصل الرقمي الافتراضي.
ويعني ذلك أنه يستحيل بناء المجتمع الحديث دون القيام بثورة ثقافية يحتل فيها نشر المعرفة والتحفيزعلى القراءة والتدريب عليها منزلة متميزة.
في نفس السياق، يلمس المستقرئ للواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع المغربي مدى التخلف الذي يعانيه على مستوى القرائية والاهتمام بالكتاب، إلى درجة تثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب والعوامل المعيقة لفعل القراءة، وانعكاسات ذلك على المجتمع والفرد على السواء.
بعد هذا التقديم، من المنطقي أن نجد أنفسنا أمام سؤال مثير يمكن التعبيرعنه كالتالي: إلى أي حد يمكن القول إن شروط قيام مجتمع المعرفة متوفرة في المغرب؟ هذا هو السؤال الذي شكل بؤرة الاهتمام لأطروحة الأستاذ عمر بنعياش المعنونة ب: «أزمة القراءة عند الشباب الجامعي، مقاربة سوسيولوجية تدخلية «؛ التي رافع عنها بتاريخ 24 فبراير2021 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط.وقد سبق له تقديم عمل يدخل في نفس السياق، حيث قدم أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه تحت عنوان:» تجربة محو الأمية في المغرب، جريدة منارالمغرب نموذجا»، كلية الآداب، جامعة ابن طفيل، القنيطرة. السنة الجامعية 2005/2006؛ عالج فيها تجربة رائدة تم تعميمها في بداية استقلال المغرب. ويمكن القول، نظرا للقواسم المشتركة بين الأطروحتين، أن العمل الثاني ما هو إلا امتدادا للأول ما داما يلتقيان ضمن مجال واحد يهم القراءة والكتابة.

من البين، أن وضعية المجتمع المغربي خلقت لدى الباحث إحساسا عميقا بوجود أزمة ذات طبيعة بنيوية لها بعد تاريخي واجتماعي وثقافي وسياسي، مما دفعه إلى توظيف طاقاته المعرفية للمساهمة في البحث عن أسبابها، ومتابعة تأثيراتها وانعكاساتها على المجتمع والأفراد.
للجواب عن السؤال السابق، وفي إطار البحث عن سبل معالجته؛ اختار الانطلاق من أصل المشكلة ومصدرها الأولي. وتمثل في موضوع عدم القرائية، خاصة لدى الشباب الجامعي.
وفق هذا المنظور، موقع الباحث دراسته ضمن إشكالية مركبة اشتغلت للجواب عن السؤال التالي: «لماذا لا يقرأ الشباب الجامعي، وما أسباب ضعف القرائية لديهم؟» وقد سعى الباحث لتحليل ومناقشة هذه الإشكالية بالاعتماد على تجربة تدخلية أنجزها ضمن «ناد للقراءة».
لتحقيق ذلك، جاء الإسهام العلمي للباحث مؤطرا بمداخل نظرية ومنهجية؛ مفصلا عمله وفق محاورمتدرجة ومتكاملة، مزواجا بين المقاربة النظرية والمقاربة التطبيقية. بناء على هذا الاختيار النظري والمنهجي، ولدراسة موضوع بحثه، قسم أطروحته التي تقع في 387 صفحة إلى مقدمة كتأطيرعام للأطروحة، وقسمين رئيسيين يشكلان ستة فصول؛ إضافة إلى خاتمة وملحقات وفهرس.

التأطير العام للأطروحة

استعرض في التأطيرالعام للأطروحة الدوافع الموضوعية والذاتية التي دفعته إلى الاهتمام بموضوع عدم القرائية في المغرب. كما شملت مبررات اختياره لموضوع البحث وتمثلت، كما ذهب إلى ذلك، في إحساسه العميق بخطورة الوضعية التي تضاعفت تأثيراتها لتتحول إلى مشكلة اجتماعية؛ بل وإلى أزمة تستلزم من الباحثين القيام بدراسات جدية لفههما والتغلب عليها. ويتطلب ذلك، حسب رأيه، إنتاج معرفة علمية باستعمال طرق بحث ملائمة يتحمل مسؤوليتها المتمرس بآليات السوسيولوجيا التدخلية، واستلهام أبحاث رائدة في الموضوع؛ كدراسات الأستاذ محمد جسوس، وماكس فيبير، وألان تورين، وغيرهم… الخ.ولن يتحقق ذلك إلا بإنتاج معرفة جادة تتجاوز النظرة التبسيطية للأمور؛ ومخالفة لأغلب الدراسات التي أنجزت حول نفس الموضوع في المغرب.
أما أهداف الدراسة كما ذكرها، فتتحدد في أمور ثلاثة، أولها: الكشف عن الأسباب الكامنة وراء عدم القرائية في المجتمع المغربي وضرورة توفير الشروط العملية لتجاوزها. وثانيها: نشر تقاليد القراءة الحرة بين طلبة الجامعة. وثالثها: خلق حراك ثقافي في الجماعة العلمية، خاصة المنتمية للجامعة بغية إقناعها بأهمية البحث التدخلي.
استجمع هذه الأهداف في صيغة سؤال مركب أورده كالتالي: «لماذا لا يقبل الشباب الجامعى(المغربي) على القراءة العمومية وهو معني أساسا بها؟ وهل هناك طريقة عملية لجعله يصبح قارئا عموميا؟ وما هو مردود هذا الفعل عليه قبل أن يكون له مردود على الجماعة؟»
لمعالجة إشكالية البحث، والجواب عن السؤال السابق، اختار الاشتغال ميدانيا مع طلبة «مسلك علم الاجتماع بكلية الآداب، بالرباط،

المنطلقات الأساسية للدراسة وبناء الإشكالية

في نفس السياق، أكد الباحث أن هناك مجموعة من العوامل ضاعفت من حجم المشكلة، وجعلت من القرائية أزمة مجتمعية في المغرب، أهمها: انتقال المواطن المغربي من المرحلة الشفهية إلى مرحلة الصوت والصورة واستعمال منصات التواصل الاجتماعي قبل أن يستوعب أهمية القراءة؛ افتقاد الشباب الجامعي لمهارات القراءة والكتابة، ولمهارات تعليمية تعلمية تؤهله للتفوق في دراسته؛ وأخيرا، عزلة الجامعات عن محيطها الاجتماعي وتخلفها عن المساهمة الفعلية في دراسة المجتمع وعجزها عن خلق بيئة قارئة.
أما أخطر هذه العوامل على الإطلاق، حسب رأيه، فيتمثل في عدم إحساس المجتمع بخطورة الوضع، واعتبار القراءة أمرا ثانويا، ولا تمثل أولوية في الحياة.
تستدعي هذه الوضعية كما قال، البحث عن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة العزوف عن القراءة؛ منها ما هو ممتد في الزمن، كعدم «وجود قراءة عمومية متجذرة في تاريخ العرب والمسلمين»، واستحواذ أهل الاختصاص، كالفقهاء، والحكام، والنخبة على كل ما يتعلق بالقراءة والمقروء. ومنها ما يرتبط بوضعية المجتمع المغربي، كالتعليم المدرسي وتراجع قيمة المدرسة، والتنشئة الأسرية، وانتشار الأمية. إلى جانب «استدعاء لحظات من التاريخ العربي-الإسلامي لقياس تأثيرها المفترض على الواقع المغربي المعاصر» المتسم بالتأخر التاريخي.
أما بخصوص عوامل التفسير، فقد عبر الباحث عن عدم اقتناعه بالدفع إلى الواجهة بمبررات تغطي عن مدى خطورة عدم القراءة من قبيل: انتشار وسائل الاتصال الحديثة؛ أوعدم وجود العرض الكافي للكتاب، أو ضعف الطلب عليه. كما اعتبر أنه من الخطأ القول إن عدم القرائية لا تخص الأجيال السابقة وإنما هي ظاهرة حديثة؛ وكذا التذرع بأننا «أمة قارئة»…الخ
استخلص من كل ذلك فكرة أساسية مؤداها: أن ظاهرة عدم القرائية ظاهرة أعمق من كل ذلك؛ لأنها متجذرة في «بنية ذهنية وثقافية منجذبة أكثر فأكثر نحو الماضي، برغم مظاهر الحياة العصرية التي يعيشها جزء كبير من المغاربة».
أما منهجيا، فقد اختار لدراسة أزمة القراءة لدى الشباب الجامعي المغربي، مقاربة السوسيولوجيا التدخلية مدعمة بالبحث الميداني. وهكذا اختار عينة من طلبة مسلك علم الاجتماع بكلية الآداب بالرباط، سواء في ما يتعلق بجمع البيانات الكمية والكيفية، أو في ما يتعلق بتأسيس ناد للقراءة، أو بتنظيم ورشة الكتابة للأطفال.
وبرر اختياره للبحث التدخلي بملاءمته، حسب رأيه، للبحث وأهدافه من جهة، والبرهنة على إمكانية تدخل أساتذة الجامعة لخلق حركية فكرية تؤدي إلى إحداث تغييرات ملموسة على مستوى التدريب والتمكن من آليات القراءة الهادفة لدى الطلبة من جهة ثانية.
وفق هذا البناء النظري، أطر بحثه وفق متطلبات الهدف المركزي التالي:
«إن الهدف من هذه الأطروحة واضح، وهو الجواب على السؤال، لماذا لا يقبل الشباب الجامعي (المغربي) على القراءة العمومية وهو معني أساسي بها؟ وهل هناك طريقة عملية لجعله يصبح قارئا عموميا؟ً وما هو مردود هذا الفعل عليه قبل أن يكون له مردود على الجماعة؟».
هذا هو السؤال المركزي للدراسة، استحضره طيلة تحليله لإشكالية بحثه المفصل وفق قسمين رئيسيين يشكلان ستة فصول؛ إضافة إلى خاتمة وملحقات وفهرس.

القسم الأول: الإطار النظري للأطروحة

قسم بحثه إلى قسمين رئيسيين. تناول في القسم الأول، وهو مصنف وفق ثلاثة فصول، خصص الأول لاستعراض الدراسات السابقة، وتطرق في الثاني إلى وضع القرائية بالمجتمع المغربي، أما الثالث فخصصه لاستعراض العوامل المشجعة وغير المشجعة على فعل القراءة بالمجتمع المغربي.

الفصل الأول: الدراسات السابقة

ذكر في البداية بندرة الدراسات حول القراءة والكتاب في المغرب نظرا لتأخرالاهتمام بالقراءة الحرة العمومية التي لم تبرز كمشكلة اجتماعية وفكرية إلا بعد صدور عدد من التقارير الدولية التي صنفت المغرب تصنيفا غير مشرف. وتابع تحليله باستعراض السياسة الثقافية في المغرب كما تتحمل مسؤوليتها وزارة الثقافة؛ مستنتجا أن مبادراتها وتدخلاتها بقيت محدودة. كما استعرض مجموعة من الكتب والدراسات المغربية حول موضوع القراءة، مؤكدا على عدم توفقها في تقديم فهم شامل وحقيقي لمشكل القرائية.
وبعد أن ذكر بأنه لا يمكن عزل إشكالية القراءة عن السياسة الثقافية للمغرب؛ سجل ملاحظتين أساسيتين حول الأبحاث السابقة التي اعتبر أنها أولا، لم تهتم بإشكالية القرائية؛ وثانيا، أنها لم تستثمر المقاربة السوسيولوجية الملائمة في دراساتها.كما توقف ببعض التوسع لتحليل «مؤشر القراءة العربي» مبرزا أهميته العملية رغم أنه، كما قال، لم يؤطر كل جوانب الإشكالية؛ إضافة إلى منظورالتعميم الذي تغلب على تحليلاته.
أما حول الدراسات الأجنبية، فاستعرض مجموعة من الكتب والدراسات حول القراءة والقرائية. وقد بدا واضحا من عرضه لهذه الكتب والأبحاث أنه لم يكتف بمجرد استعراض مضامينها؛ وإنما أسهب في الحديث عن أهميتها بالنسبة لبحثه؛ مذكرا بما استفاده منها في صياغة ومعالجة إشكاليته؛ علما أنه أشار إلى استفادته من الكتب الأجنبية أكثر من الدراسات المغربية حيث استنتج منها أساسا، كما قال، كيفية الاستفادة من تجارب البحث التدخلي وطرق تنفيذه.
أما السؤال الذي شغل بال الباحث طيلة عرضه السابق، فعبرعنه كالتالي: لماذا لم تبرزالقرائية كأولوية ثقافية في المجتمع المغربي؟ جاء جوابه مركزا على العوامل الثقافية والحضارية والسياسية والتاريخية، على اعتبار أنها إشكالية معقدة يستلزم التفكير فيها إعادة صياغتها من منظور جديد للبحث عن الأسباب العميقة الثاوية في تاريخ المجتمع المغربي وحاضره. وعبر عن ذلك بقوله: «يجوز القول إن أهمية موضوع القراءة في المجتمع المغربي لا تكمن في تشخيص أوضاعها، وإنما في الإشكالية المعقدة التي تطرحها»؛
شكل هذا الموقف الفكري قاعدة الانطلاق الأساسية لبحثه الذي استند إلى محاوراعتمدها كمداخل، وكتأطير نظري لمسار بحثه. نجد من بين أهمها رصد الأسباب الحضارية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعبر عن أزمة التخلف الحاصل في المغرب على مستوى فعل القراءة.

الفصل الثاني: التشخيص أو وضع القراءة
في المجتمع المغربي

افتتح الفصل الثاني الذي خصصه لاستقصاء الأسباب غير المباشرة المعيقة لفعل القراءة العمومية في المغرب، لمناقشة علاقة فعل القراءة بمسألة العرض والطلب؛ وهل يؤدي ضعف الطلب على القراءة إلى التأثير على توفير العرض؟
عرف بالعرض الذي توفره بعض المؤسسات الثقافية العمومية بالمغرب، كوزارة الثقافة، والمكتبات العمومية. كما قدم نتائج تقارير بعض المؤسسات الثقافية حول الممارسات الثقافية للمغاربة، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والتقرير السنوي لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود…إلخ. واستنتج من التقديم السابق أنه رغم وجود عرض متواضع، واختلال نظام توزيع المكتبات مجاليا؛ فإن نتائج التقارير حول القرائية والكتاب في المغرب أكدت أن الممارسات الثقافية للمغاربة لا تمثل أولوية بالنسبة لهم، ولا تحظى إلا باهتمام ضئيل من جانبهم كما ظهر من خلال دراسات «البحث الوطني حول استعمال الوقت الحر»، و»تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي»، ودراسات أخرى تمت الإشارة إليها سابقا. استنتج من هذه التقارير أهم معوقات فعل القراءة والقرائية في المغرب، وحصرها في العوامل التالية: ارتفاع معدلات الأمية؛ تدني حضور الممارسات الثقافة لدى المغاربة في مقابل هيمنة التلفزة والأنترنيت بدرجة كبيرة على حياتهم؛ ضعف انتشار المكتبات العمومية في الجهات؛ غياب اهتمام الأسرة بالقراءة وبتنشئة أطفالهم عليها.
كاستنتاج عام، اعتبر الباحث أن تبريرعدم القرائية بالرجوع إلى عوامل واهية؛ كغياب الطلب ونقصان العرض؛ وضعف البنيات المحفزة على القراءة؛ والانجذاب نحو عالم الشبكة العنكبوتية …الخ؛ كلها مبررات غير مقنعة لا تتجاوز مستوى التحليل السطحي؛ مما يتطلب، حسب رأيه، البحث عن العوامل العميقة المفعلة لهذه الوضعية.
في ارتباط بهذا الاستنتاج، توقف لعرض مشكلة معقدة اعترف بأنها تشغل وعيه كباحث، لخصها في السؤال المنهجي التالي:
هل يمثل الإعراض عن القراءة الحرة العمومية مشكلة اجتماعية في المغرب؟
أجاب الباحث عن هذا السؤال أن فعل الإعراض عن القراءة لا يمثل مشكلة اجتماعية، لا بالنسبة للمجتمع ولا بالنسبة للأفراد طالما أنها لا تولد لديهم أي إحساس بالنقص؛ بل يعتبرونها أمرا عاديا وطبيعيا. وأرجع ذلك إلى كونها قضية معقدة، لأن عدم القرائية يشكل وضعا «ذهنيا ممأسسا ومتجذرا في التاريخ الاجتماعي والثقافي لمجتمع يجد له مسوغات ومبررات عدة، من بينها أن القراءة تؤدي إلى الكفر والإلحاد، أو إلى الحمق والانعزال عن الناس».
في هذا السياق، اقترح البحث عن الأسباب العميقة لهذا «التخلف التاريخي» باعتماد مقاربة تستحضر في نفس الآن، العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية والدينية، ورصد مدى قوة تأثيراتها في مجال الإقبال على القراءة العمومية في المجتمع المغربي. خاصة أن المجتمعات المتقدمة تجاوزت مرحلة «أزمة القراءة» وتعيش الآن مرحلة «تحول» القراءة. وخصص الفصل الثالث للتوسع في استحضار ومناقشة هذه الأسباب.
الفصل الثالث: المداخل المشجعة وغير المشجعة على فعل القراءة بالمجتمع المغربي
ناقش الباحث في هذا الفصل، اعتمادا على خلفية ثقافية وحضارية وتاريخية واجتماعية ودينية، مجموع العوامل التي اعتبرها مشجعة على القراءة، مقابل عوامل أخرى غير مشجعة؛ محاولا الجواب عن السؤال المحوري التالي: “لماذا لا يقرأ المغاربة؟”
توقف في البداية لتقديم بعض المبادرات المشجعة على القراءة في المغرب. وذكر كمثال على ذلك بعض المبادرات التي يقوم بها المجتمع المدني.أما بالنسبة للعوامل غير المشجعة على القراءة؛ فأكد أن لأسبابها جذورا “متأصلة في الماضي، سواء ما اختص به وحده، أو ما اشترك فيه مع مجتمعات عربية إسلامية”. وميز في هذا السياق بين مدخلين: مدخل الإعراض عن القراءة في التاريخ العربي الإسلامي، ومدخل الإعراض عن القراءة الخاص بالمغرب.
بالنسبة للمدخل الأول، أبرز مدى قوة تأثيرات التاريخ العربي – الإسلامي لأنه كما قال، “داء العطب قديم”. وتجسدت هذه التأثيرات في مسألة التمييز القطعي بين الخاصة، ويمثلهم الفقهاء الذين احتكروا ما هو مكتوب؛ والعامة الذين اكتفوا بما هو شفوي لتصريف أمور حياتهم، فتخلوا عن الكتابة “للخاصة منذ البدء إلى اليوم”، إضافة إلى التشجيع على الاتباعية للفقهاء والخاصة، ومحاربة الفكر الحر باستعمال الترهيب النفسي أحيانا، وبمحاكمة العلماء وإبادتهم وإحراق كتبهم أحيانا أخرى.
أما بالنسبة للمدخل الذي يهم المغرب، فاستعرض من خلاله مجموعة من العوامل ذات العلاقة المباشرة بالممارسة الثقافية والسلوك الاجتماعي للمغاربة؛ وكيف شكلت هذه المجموعة من العوامل سدا منيعا أمام نشر ثقافة الكتاب والقراءة؛ كسيادة تقاليد الممارسة الشفوية واعتبارها ممارسات عادية ومقبولة. وميز بين مرحلتين: قبل المرحلة الاستعمارية ومرحلة استقلال المغرب. وأكد الباحث في البداية أن وضعية المغرب منذ بداية القرن التاسع عشر لم تكن مشجعة على مواكبة التطورات التي ظهرت في الغرب، بما في ذلك التطورات التقنية المنتجة للكتاب والمحفزة على القراءة، كتقنية الطباعة وصناعة الكتب. ومن نتائج هذه الوضعية عدم انتشار الكتاب والقراءة التي لم تكن من بين أولويات المغاربة الذين وضعوا سياجا سميكا بينهم وبين أي فعل تغييري آت من الغرب. إلى جانب فشل تجربة إرسال البعثات الطلابية إلى الخارج بين سنتي 1847و1885 لتلقي تعليم صناعي عسكري فشلت في مهامها بعد رجوعها للبلاد، بل حوربوا وتم اتهامهم بالإلحاد.
فهل ستتغيرالأمور بعد استقلال المغرب؟
في سياق متابعة العوامل المسببة لعدم القرائية في المغرب؛ توقف للتعريف بدور المدرسة لعلاقتها المباشرة بإشكالية القراءة. وقد بوأها الباحث مكانة خاصة نظرا للوضعية الاستثنائية التي تحتلها في تعزيز القراءة والإقبال على الكتاب.ولهذا اعتبر أن المدرسة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن عدم التنشئة القرائية والإقبال على الكتاب.
إلى جانب ذلك أورد أسبابا أخرى اعتبرها مسؤولة عن تردي وضع المدرسة وتراجع القرائية؛ وهي في نفس الآن ذات طبيعة سياسية ومدرسية: استمرارالهدر المدرسي؛ تأثير الخوف من السلطة أثناء “سنوات الرصاص”؛ أمية المنتخبين؛ الإقبال على تقنيات التواصل الحديثة وهيمنة شبكات التواصل الرقمي على حساب الكتب والقراءة؛ بروزظاهرة “القارئ المتصل”؛ حيث تحول الشباب، كما قال، إلى “كائنات متصلة” لا وقت لديهم للقراءة، استنفدوا كل وقتهم أمام الشبكة العنكبوتية التي لا يستغلونها من أجل الاطلاع على الكتب، والاستفادة من خدماتها النافعة علميا.
من الواضح، أن محطة استعراض الأسباب المعيقة وتصنيفها بالنسبة للباحث، لم تشكل سوى مقدمة للمرور إلى مرحلة وضع اليد على العوامل المفعلة لظاهرة عدم القرائية؛ مما استلزم الإقبال على تحليل هذه الوضعية ودراستها من أجل فهمها وتجاوزها. هذه هي المحطة التي أولاها الباحث اهتماما كبيرا.
ولكن بأي أسلوب بحث، وبأي منهج؟

القسم الثاني: التطبيق التدخلي

ينبغي التأكيد، بداية على أن الباحث، وبهدف تحليل الإشكالية المركبة لدراسته، بنى بحثه وفق مستويين رئيسيين متداخلين في ما بينهما:
– المستوى النظري، لإبراز دور الجوانب الإيديولوجية والثقافية والتاريخية والدينية المؤثرة في توجيه مسار القرائية والكتاب في المغرب.

المدخل المنهجي ويهم الجانب التطبيقي للبحث. وتوقف فيه للتعريف بالمقاربة التدخلية، وكيفية استثمارها وتطبيقها، مع ذكر الهدف المتوخى منها

هكذا خصص القسم الثاني للدراسة التطبيقية التي شملت فحص الفروض باستعمال عدة تقنيات كمية وكيفية، كالاستمارة، وتقنية تحليل المضمون، وتحليل السير الذاتية. إضافة إلى الاختبارات والروائز» التي استعملها أثناء متابعته أعمال «نادي القراءة»، وتجربة إحداث ورشة الكتابة للأطفال. ويتكون من تقديم عام وثلاثة فصول مخصصة للتجربة التدخلية، وخلاصة عامة تركيبية.

الفصل الأول: تقديم الأطر المنهجية والمفاهيمية

توقف في الفصل الأول لإبراز مظاهر «أزمة القراءة» لدى الشباب الجامعي المغربي، مع التعريف بأسبابها وانعكاساتها وتأثيراتها على المجتمع والتعليم الجامعي.
وقسمه إلى ثلاث مباحث:1- التأصيل المنهجي للمقاربة السوسيولوجية التدخلية. 2-المفاهيم الإجرائية للدراسة. 3- عرض الفرضيات الأساسية للدراسة.
1. خصص المبحث الأول للتعريف بالمقاربة السوسيولوجية التدخلية التي تتميز بتدخل الباحث وانخراطه ضمن المجموعة لإحداث تغييرات ملموسة في عملها والدفع بها إلى الأمام. وتطلب منه ذلك إنشاء ناد للقراءة تتبع نشاطاته على مدى أربع سنوات؛ إلى جانب إحداث ورشة الكتابة للأطفال». أما الهدف العلمي الثاني للنادي والورشة، فتمثل، حسب الطموحات التي عبر عنها، في تعميم التجربة وغرس جذورها في الجامعة المغربية، ودفع الأساتذة إلى الإقبال عليها وتطبيقها.
استعرض الإرهاصات الأولى للسوسيولوجيا التدخلية كما ظهرت بعد الحصول على الاستقلال مع الرعيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة، كبول باسكون، والخطيبي، وجورج لازاريف، ومحمد جسوس وغيرهم؛ لينتهي بخلاصة مؤداها: أن السوسيولوجيا المغربية كانت في نشأتها الأولى تدخلية، قبل أن يتراجع الجانب التدخلي منها؛ مما يعطي الشرعية للرجوع إليها، والاشتغال «مباشرة مع الفاعلين الاجتماعيين من أجل التغيير وإحداث الأثر»
توقف ببعض التوسع للتعريف بالسوسيولوجيا التدخلية وتميزها عن السوسيولوجيا الكلاسيكية؛ مؤكدا على جدوى وأهمية الفعل التدخلي في الأبحاث السوسيولوجية كما اتضح ذلك من خلال جملة من الأبحاث والدراسات لأعلام سيولوجيا الفعل، معرفا بأهم أعلامها وتياراتها، كتيار التحليل الاستراتيجي، وأعمال كل من: آلان تورين، دومنيك فيلدر، وكوت ليفين، وآخرون.
2.المفاهيم الإجرائية
استعرض بتفصيل المفاهيم المحورية التي يقوم عليها البحث، وهي مفاهيم: القراءة، المقروئية، الأزمة، العزوف، سوسيولوجيا القراءة، بحوث الفعل، منهجية بناء المشاريع…إلخ. كما عرف بالسوسيولوجا الإكلينيكية وعلم الاجتماع التطبيقي مبرزا أهميتهما في البحث التدخلي مقارنة مع السوسيولوجيا الكلاسيكية والنظرية.
3. عرض الفرضيات الأساسية للدراسة
أنهى الفصل باستعراض الفرضيات الأساسية التي تهدف الدراسة فحصها بوسطة البحث الميداني، والتحقق من مدى صدقيتها قصد معرفة دور الفعل التدخلي في مساعدة الطلبة على «التغيير والانتقال من وضعية الإعراض إلى وضعية الإقبال، ومدى انعكاس هذا الإقبال على شخصياتهم وتحصيلهم الجامعي». واستعرضها فيما يلي:
«الفرضية الأولى: تقول بوجود علاقة تفاعل قوية ما بين القرائية وعدم القرائية والتنشئة الاجتماعية ونظام التربية ومسار الحياة لدى الأفراد».
«الفرضية الثانية: تقول بانعكاسات فعل القرائية من حيث قوته وضعفه على النباهة والكفايات التحليلية ومدى نجاعة إخضاع الطلبة للقراءة تحت الإجبار».
«الفرضية الثالثة: تقول بالأهمية التطبيقية للسوسيولوجيا التدخلية وإحداث الأثر من خلال تجربتي إنشاء ناد للقراءة وإعداد ورشة الكتابة.»
(*)أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس سابقا


الكاتب : ذ. الشهب محمد (*)

  

بتاريخ : 05/06/2021