سؤال العدالة ومصير العلاقات مع المغرب ؟ إسبانيا «دخل البطوش وخرج غالي»

محمد بنمبارك

وأخيرا تمكنت إسبانيا من إيجاد حل لأزمتها الداخلية بإعادة إبراهيم غالي إلى بلاده الجزائر، دون أن تتمكن من حل أزمتها مع المغرب، التي سترخي بظلالها دون شك على مستقبل العلاقات بين الرباط ومدريد على الأقل في المستقبل المنظور. في انتظار الإجابة عن الأسئلة المغربية المعلقة التي استعصى على الممتحن ـ بفتح الحاء ـ الإسباني الإجابة عنها، لسبب بسيط أنه لا يملك ولم يتمكن من تقديم أجوبة شافية كافية مقنعة، مكتفيا بالمناورة والمراوغة، خاصة بعد أن أشهر الورقة الأوروبية في وجه المغرب، سعيا لتحويل الأزمة من ثنائية، مدريد الرباط إلى ثلاثية مدريد الرباط بروكسيل / ستراسبورغ.
ويعود الأمر إلى أن سبب الأزمة في شقه الأول، يتعلق بخرق سافر لقواعد قانونية إسبانية وأوروبية بل ودولية تتعلق بالتغطية على استقبال شخص بوثائق وهوية مزورة، لم تتحل معها مدريد بالشجاعة للاعتراف بخطئها الفادح، وفي شقه الثاني لم تأخذ العدالة مجراها الحقيقي في نازلة غالي المتخفي تحت اسم بن البطوش ليقول القضاء كلمته بعد استكمال كافة التحقيقات القضائية والنظر في طعون الضحايا، وفي شقها الأخير لم تأخذ الحكومة بعين الاعتبار ما قد يترتب عن اندفاعها من عواقب على علاقاتها مع بلد تتقاسم معه قواعد حسن الجوار والمصالح المشتركة الواسعة الامتدادات.
تكفل القضاء الإسباني في الأخير بحسم الموقف، وإنقاذ ماء وجه الحكومة أو إسبانيا باتفاق في جنح الظلام، صدر الحكم إثره كحل سياسي تم خارج نطاق قواعد العدالة والقانون. فالقرار كما بدا عبر عن تسوية بين السلطتين القضائية والتنفيذية، لوقف نزيف تداعيات هذه الأزمة داخل الساحة السياسية والقضائية والإعلامية بإسبانيا أولا وأخيرا، ليتبين وبالملموس أن الديمقراطية وقاعدة فصل السلط واستقلالية القضاء لم تحترم في هذه النازلة، لأسباب مكشوفة تعرفنا من خلالها على من تكون إسبانيا، وأن السياسة لا تزال أسمى من العدالة.
وبالرغم مما خلفته أزمة الانفصالي غالي من آثار سيئة على العلاقات بين البلدين، وفي توقيت يستدعي ضبط النفس وتهدئة الأجواء، فإن إسبانيا حكومة وأحزابا معادية واصلت استفزازاتها للمغرب، عبر سلسلة من الإجراءات والمواقف المناوئة، تجلت في قيام القوات المسلحة الإسبانية بإجراء مناورات وتدريبات عسكرية قبالة سواحل الحسيمة، ومطالبة الجيش الإسباني الحكومة بتوفير وسائل ضمان مراقبة الحدود في سبتة ومليلية بالإضافة إلى الجزر الأخرى في البحر الأبيض المتوسط، كما قام زعيم الحزب الشعبي الإسباني “بابلو كاسادو” بزيارة لمدينة سبتة في سياق الضغط على حكومة بلاده، وإمعانا في الاستفزازات سبقه إلى سبتة زعيم حزب “فوكس” الإسباني اليميني “ سانتياغو أباسكال” الذي أدلى بتصريحات عنصرية ضد المغاربة.
تلا ذلك مضي إسبانيا في استخدام ورقة الهجرة لكسب الدعم الأوروبي، حين سعت في خطوة ثانية إلى البرلمان الأوروبي بغاية إحراج الرباط باستصدار قرار يدين المغرب في «قضية القاصرين» محاولة من جانبها « صرف الانتباه عن أزمة سياسية ثنائية تخص المغرب وإسبانيا، بل هي محاولة لإضفاء بعد أوروبي على أزمة لا علاقة لها بالهجرة»، كما جاء على لسان الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب المغربي، غير أن الاتحاد الأوروبي لم يبتلع الطعم الإسباني، عندما سارع إلى الترحيب بقرار المغرب المتعلق بالتسوية النهائية لملف «القاصرين غير المرفوقين» حيث أكدت المتحدثة باسم الاتحاد للشؤون السياسية والأمنية أن «المغرب يعد شريكا مهما بالنسبة للاتحاد الأوروبي وأحد أقرب جيراننا»، في إشارة تنبيه واضحة للإسبان وموقف داعم للمغرب.
في مجملها تحرشات تعمدت إسبانيا من خلالها الزيادة من حدة الضغوطات السياسية والعسكرية على المغرب، والسعي للإساءة إلى سمعته الدولية المتميزة. جملة هذه المواقف العدائية تؤكد صدق ما ذهب إليه المغرب منذ البداية، بالتأكيد أن الأزمة مع إسبانيا هي فعلا أزمة عميقة، تكشف النوايا الحقيقية التي يقف وراءها لاسيما في الظروف الراهنة، رئيس الوزراء «بيدرو شانسيز» ووزيرة خارجيته «أرانتشا غونزاليس لايا»، شانسيز الذي أصر رغم تحذيرات وزير الداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات في إسبانيا من عواقب مثل هذا النوع من القرارات المناهضة لقضية الصحراء على العلاقات مع المغرب، على المضي في مواقفه، في سلوك منحرف يذكرنا برئيس الحكومة الأسبق خوسي ماريا أثنار.
وكان المغرب قد سجل سلسلة من المواقف الإسبانية المعادية الخارجة عن المألوف والمستفزة، نذكر منها على الخصوص تصريحات وزيرة الخارجية الإسبانية، أرانتشا غونزاليس لايا، التي انتقدت فيها قرار الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، متأملة من إدارة الرئيس جو بايدن أن تعيد النظر في قرار إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، قبل أن يصدمها القرار الأمريكي الجديد باعتماد اتفاقية الاعتراف الرسمي بمغربية الصحراء. نستحضر هنا أيضا قيام رئيس الحكومة بأول زيارة رسمية له للخارج إلى الجزائر في أكتوبر 2020، وهي خطوة غير مجانية كانت تشير إلى تحول ما في الموقف، الذي خالف القاعدة التي اعتمدها سلفه من رؤساء الحكومات، لكن المغرب لم يفوت الفرصة فرد عليها بطريقة دبلوماسية بالغة الأثر.
في أعقاب مغادرة الانفصالي غالي التراب الإسباني دون شفاء، كظم المغرب غيضه دون أن يعفو، ظل صامتا محتفظا بحقه بالرد على المواقف الإسبانية المعادية الممعنة في الاستفزاز، لكنه أبلغ الحكومة الإسبانية رسالة واضحة، مفادها أن استقبال غالي ليس جوهر المشكل، بل الجوهر هو مسألة ثقة تم تقويضها بين شريكين، كما هو مسألة دوافع خفية معادية لقضية الصحراء المغربية، محملهم مسؤولية الضرر الذي أصاب العلاقات بين البلدين.
فجاءت أولى الردود المغربية مؤلمة للإسبان، بالإعلان عن استبعاد الموانئ الإسبانية من عملية مرحبا 2021، واستخدام موانئ «سيت» بفرنسا و»جنوة» بإيطاليا، وهو القرار الذي نزل كالصاعقة على العديد من عمداء المدن الإسبانية على رأسهم الجزيرة الخضراء، الذين باتوا يتحدثون عن خسائر بملايين «اليورو» جراء القرار المغربي، كما وصفت» إلموندو» إحدى كبريات الصحف الإسبانية قرار « إقصاء الموانئ الإسبانية بالضربة القاسية التي وجهها الملك محمد السادس لإسبانيا، حيث تسببت في خسائر تقدر ب 500 مليون يورو».
العلاقات المغربية الإسبانية بعد هذه الأزمة بات يحكمها واقع جديد، سيعمد كل طرف إلى إعادة ترتيب أوراقه وحسابات الربح والخسارة. فمآل هذه العلاقات يزداد غموضا في ظل تصاعد التوتر وغياب طرف محاور خاصة لدى الجانب الإسباني، بعدما تبين أن أطرافا رئيسية داخل الحكومة ( رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية) تتحمل مسؤولية تأزم الوضع بين البلدين. فهل افتقدت هذه الشخصيات مصداقيتها أمام المغرب في الحوار والتواصل ؟ هل ستتكلف شخصية وزارية أخرى وازنة داخل هذه الحكومة بفتح قناة تشاور وعلى أي أساس؟ هل سيتدخل العاهل الإسباني، رغم محدودية صلاحياته الدستورية، في لعب دور ما للتقارب وعودة المياه إلى مجاريها؟ هل الأمر يحتاج إلى وساطة دولية؟ هل على المغرب انتظار حكومة إسبانية جديدة في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية القادمة ليطوي صفحة التوتر وسوء التفاهم ويفتح عهدا قائما على احترام مبادئ حسن الجوار والاتزان والصداقة، التي يجب أن تطبع سلوك البلدين لاسيما من الجانب الإسباني حتى لا يتكرر ما جرى؟
تذهب بعض التحليلات إلى أن العلاقات بين البلدين مهددة بقطع الروابط الدبلوماسية وتجميد كل النشاطات، غير أن هذا الأمر يبدو مستبعدا إلا في حال استمرار التهديدات والمضايقات الإسبانية، فليس من مصلحة أي طرف أن تصل الأزمة إلى هذا الحد. فالمغرب اكتفى بالتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية وباستدعاء السفيرة من مدريد للتشاور، وعودتها ستظل رهينة بما قد يحصل من تطورات في ملف العلاقات والحوارات والمشاورات السياسية خلف الكواليس والوساطات. كما عبر المغرب صراحة عن انزعاجه من طبيعة التعاطي مع قضية الصحراء المغربية، التي تظل النقطة السوداء في العلاقات المغربية الإسبانية، هذا إذا أضفنا إليها ملف المدينتين السليبتين سبتة ومليلية. فهل وصلت الرسالة المغربية إلى الإسبان؟ أم أن التحرش والاستفزاز والمناورة سيظل سيد الموقف الإسباني ليدخل البلدان منطقة الأعاصير والصراع المحموم.
* دبلوماسي سابق

الكاتب : محمد بنمبارك - بتاريخ : 18/06/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *