حين تحول رفيقي إلى دجاجة

حسِب مع تكاثر الأيام عليه، أنَّ شاشة ذاكرته أصبحت عاجزة عن استرجاع ما يحب من أشياء أيامه المنصرمة، إلا أنه اكتشف أن من بين قدراته ما تستطيع ذاكرته استدعاءه متى يشاء ولو كَحُلْمٍ، نائماً كان أم صاحيًا، دون أن يبذل في العودة إليه أدنى جُهْدٍ.
فقد رأى مرة في ما يرى الحالم في يقظته، وهو يحث خطاه منحدراُ عبر ذلك الحي البعيد القريب من وادٍ صغير يجاور مدرسته كان الأولى بتلك بالمدينة الصغيرة، بينما كان يقترب من الساحة الكبرى، أن هناك جمعا من الناس تجمهروا على مقربة من باب القصبة الأثرية فيها ، مكونين حلقة يتوسطها ساحر، وجمعًا ثانيًا تحلق حول شيخ ضرير هو راوي الأزلية في لباسه التقليدي ولا ريب، فمال إلى من تجمَّع حول الساحر المعروف باسم الحكيم، السحر المرح، فهو ابن حومته : حي السوق، الواقع غرب هذه المدينة وقد كان يقدر بخفة ظله أن يستميل كثيرين، فوجهه المشرق يهب كل من يراه انشراحاً فوريًا، فكان أن سارع وقد غمرته، بمجرد أن رآه، موجة من الفرح العارم، فانضمّ إلى جسم حلقته بدون تردًّدٍ، بل أنه نجح في إيجاد ثغرة تسلل منها بين زحام الواقفين ليجد نفسه بين مجموعة أطفال كانوا قد سبقوه إلى احتلال الصف الأقرب من الحكيم، فالتفت ليجد أحد رفاقه في القسم» عبْسَم ولد الغولة» يجلس غير بعيد عنه ، حياه بابتسامة ثمّ غضّ بصره محولاً عينيه إلى جهة أخرى، ثم سرعان ما عاد إلى ملاحظة ما يجري وسط حلقة الحكيم الذي كان رفيقه أحد المتواطئين معه في أداء بعض الأدوار التي كانت تبهر الواقفين الآن وقبل هذا المساء.
وكان أن انفجرت الحلقة ضحكاً حين تمّ اختيار»ولد الغولة» هذه المرة ليقوم بدور دجاجة تضع بيضًا، وقد شهد المتفرجون، إتقانا للدور وإمعانًا في الإيهام، بأن رفيقه كان آخر من التحق من الواقفين بالحلقة، مٌرتديًا جلباباً، فالزمن كان شتاءً وكان يخفي البيض في أحد جيوبه تحت جلبابه المسدل عليه قبل مجيئه، فتقدم الحكيم منه ليسحبه من تلابيبه، وكأنه مجرد عابر سبيل، وأمره بالجلوس وسط الدائرة التي ازدحم حولها المشاهدون ليؤدي دور الدجاجة وكان أن اختار الحكيم شابًا آخر يافعًا ليرجو منه القيام بدور الديك، الذي سيطوف بولد الغولة القاعد الآن وسط الحلقة عدة مرات، وهو يقوقئُ ويصيح مقلدا الديك، ثم أمر الحكيم الشاب بعد ذلك، أن ينسحب مشكورًا إلى حيث كان يقف أول أمره، وما أن وقف «عبسم ولد الغولة» حتى ضج الجميع بضحك طويل، فقد قام ليترك في المكان حيث كان قاعدًا ثلاث بيضات. صفق الجميع وضحكوا، ثم حث الساحر الناس أن «يقرقبوا سوارت الرباح» بمزيد من التصفيق لرفيقه، ليطلب منه ، كما تعوَّد الإسراع بالطواف بالحلقة لجمع هِبَاتٍ مما يجود بها عليه الكبار من المتفرجين، لكن رفيقه المسكين لم يقدر هذه المرة على الحركة ، بل تجمد، بل إنه بدا كما لو أنه فقد النطق ، وحتى السمع أيضًا، إذ وقف فاغرا فاه لا يكاد يفهم شيئًا مما يطُلب منه، فازداد الحكيم حيرة ، وارتبك وهو يرى صاحبه وقد خلع عنه جلبابه ، وقد صار أمام الجميع المسحورة أعينهم دجاجة تسعى بالفعل، وترتفع قوقآتها، وقد شرعت في القفز هنا وهناك، بحيث بُهت الحكيم على مهارته المشهودة، لهول المفاجأة، حين لم يعد أمامه من الوقت ما يكفي للسيطرة على الموقف للتعجيل باختتام الحلقة بنجاح قبل أن يفاجأ بمن يرفع أذانًا سيتفرق معه كل اجتماع في هذه الساحة ، فما كاد الساحر يأتي بحركة يدعو بها رفيقه الذي صار دجاجة إليه ، حتى رأى الناس حارس القصبة يهرول خارجًا من باب المبنى الأثري، وهو يدلف مخترقًا صفوف الناس، مسرعاً إلى قلب الحلقة، ليأخذ بتلابيب الساحر، معتقدًا أنه يطارد قرد القصبة الضخم الذي كان قد هرب من قفصه فيها ، بعد أن أعمى الحارس تعب البحث عنه منذ منتصف النهار.
ولأن هذه الساحة هي الكبرى بين ساحات أخريات متفاوتات السعة في هذه المدينة ، فقد كان لها سبعة مداخل، ومن إحداها أطلت « الغولة أم عبسم» مهرولة وهي تنادي ابنها، و تصرخ باسمه بأعلى صوتها وتولول بأبشع بكاء :
ـ ابني تحول دجاجة، وشهد الناس أنه وضع بيضاً وهم حاضرون. ثم تتابع نشيجها الغريب بصوت مخيف.
والغولة لقب غلب على هذه المرأة القوية الضخمة حتى أنها لم تشترك في عراك شبَّ بين نساء حيها المسكينات لم تنتصر فيه، مهما كانت أسلحتهن التي يحتمين برفعها لصدها عنهم ، فلقبْنَها بالغولة.
وقد يكون أحد البلهاء مر بالحلقة التي استغرقها صخب الضحك فأسرع ناقلًا الخبر إلى الغولة مصوراً لها أن ابنها مُسِخَ دجاجة على مرأى ومسمع من شهود كثيرين.
فارتفع بكاؤها المرعب العالي، ونشر عويلُها رعبا مضاعفًا أخلى جنبات وُطَاءَ الحمّام، وتشتَّتَ معه كل من كان على أرضها مذعورين بعد التفاف ضاحك سعيد، لم ينفع الساحر الحكيم في شيء، بل حوّله إلى هارب ذليل .
ولم يعرف أحدٌ كيف تفرق الناس عن حلقة كانت أبهرتهم بمفارقاتها المرحة حتى تعالت أصواتهم بضحك عاصف يسمع من مكان بعيد؟
بل إن أحدًا منهم لم يتنبّه إلى انسحاب الحكيم ساحر الحلقة نفسه خلسة ، بل ذوبانه في فضاء الساحة ليظهر في ساحة أخرى وفي مدينة أخرى في غير ذلك المساء بالطبع، بعد أيام أو شهور.كانت كافية لسكوت الغضب عن الغولة أم عبسم الذي لم يُنسِ الناس هولٌه، خفةَ المفاجآت الممتعة التي كان هو نجمَها الأول ؟
أما الطفل، قرين السارد فقد كان بين من المتجمهرين من انتبه إلى انسحابه وهو يعدو، لا يلوي على شيء، بكامل وسعه، نحو بيت أسرته في الحي الغربي من المدينة، بعد أن تذكر ما كان متابعًا به من واجبات دروس لم يعد أمامه متّسعٌ من وقت لإنجازها قبل أن يطبق عليه سلطان نومه، حيث سينخرط في استسلام بقية ليله في أجواء حلقة من حلقات أحلام لذيذة لا تتوقف، لم يكن لديه من وسيلة سواها، ليُدفئُ ليالي شتائه القارس الطويل.


الكاتب : أحمد بن ميمون

  

بتاريخ : 03/07/2021