“تابو الجسد، هو ذلك الفشل في “انسكاب” الذات الإنسانيّة بكل مكوناتها المتشابكة والمعقدة من خلال الفعل الجنسي، بحيث يطل الوعي كرقيب سخيف على لحظة الانعتاق الأكثر خصوصيّة بالتّجربة البشريّة، فيبدأ الإحجام أو التردّد أو التنازل أو المفاضلة أو قرع الحسابات”.
نبتعد قليلا عن تناول الذات الإنسانيّة، بوصفها عقلا ونزوحا نحو التحرّر لنغوص في أعمق ماهياتها، وأكثرها احتجابا خلف العديد من الجدران بل والمتاريس الحصينة، لنتناولها بوصفها -في جانب منها- بحثا وتحقيقا للذة في مستواها الحسّي الجنسي الشّهواني.
بداية يجب التّأكيد على حقيقة تلازم جميع “معطيات” الذات الإنسانيّة وتفاعلها، وخطإ توهّم انفصالها عن بعضها البعض، أو فرض تلك القسمة الجائرة ما بين جسد وروح، وهي بالطّبع قسمة تستمدّ ديمومتها من المقدّس وملحقاته، وتنتهي إلى احتقار الجسد طلبا لإعلاء الرّوح، وكأنهما أي الجسد والرّوح (الوعي) في حالة صراع، أو تلازم عكسي يجب أن ينتهي بإعلان انتصار أو اعتراف بهزيمة.
وفي الواقع هناك حقيقة بسيطة جدّا، ولكنّها مدهشة تخبرنا أنّه دون الوعي أو الشّعور (أو حتّى الرّوح بالمفهوم الدّيني) فإنّه لا قيمة أساسا للجسد وتأثيراته أو تأثره باللذة أو الألم!
لكن تظلّ النّظرة إلى الجسد باعتباره مجرّد (وسيط) يعمل في خدمة العقل أو الوعي محكومة بمخاطر عدّة ليس أسوأها التمنطق بمقولات غارقة في الميتافيزيقيّة، بل وأيضا هي نتاج لعلاقة سطحيّة جدّا، ومبتسرة مع ماهية الجسد نفسه وتأثيراته المختلفة والدائمة، بحيث يستحيل في الحقيقة الفصل تماما بين الذات الإنسانيّة وجسدها المادي، فيما يتعلق بإحساس تلك الذات بنفسها، وجلّ ما يمكن إنجازه في هذا المسار هو إسقاط التّجريد والتّنظير على الآخر كفرد أو جماعة أو أشياء (مقولات وموجودات).
لنفكّر بصورة مختلفة… كيف ينشأ تابو الجسد؟
جوهر التابو، هو الفصل والعزل… وبالتّالي يمتدّ جدار الجسد عندما يحدث العزل والفصل ما بين وعي الإنسان وجسده على الصّعيد الذاتي… بينما يكون موجودا بصورة واضحة، عندما يفصل بين جسد الأنا وجسد الآخر.
والأمر هنا لا يتعلق بأيّ مقاربة مع ما اصطلح على تسميته بعلاقة شرعيّة، أو غير شرعيّة… ففي الواقع لا توجد هناك أي شرعيّة للاتصال الجسدي، سوى الرغبة المتبادلة في ذلك… وهي هنا تعبير عن احتياج أو نزوح نحو اللذة، بوصفها قيمة مطلقة بالوجود. كما سيتم توضيحه، بينما يكون الإشباع (الكامل)، وهو قيمة مطلقة، تقف خلف كلّ فعل جسدي أو ممارسة شعوريّة.
ولكن ما الذي يدفع التواصل الجسدي إلى الفشل (في بلوغ اللذة وليس في اكتمال آلية التواصل ذاتها) على الرّغم من توافر كلّ اشتراطاته سواء المادية أو المعنويّة؟
وقبل محاولة الإجابة عن هذا السّؤال، يجب الاعتراف بأنّه سيكون من العسير (استحضار) تلك الحالة، رغم توحّشها سوى من ذات عاينت وقائعها بالفعل ماديا وشعوريّا، بوصفها خبرة حسيّة أحبطها عدم الإشباع رغم الاكتمال الإجرائي.
أسلاك الفراش الشائكة:
طبيعة الاتصال الجنسي ذاتها قد تمنحنا إجابة ما إذا ما جربنا أن نتعاطى معها بصورة أعمق من مجرد (حكّة) جنسية، أو إشباع لغريزة، ينتهي بالوصول إلى ذروة أو نشوة.
الوعي الإنساني، هو عبارة عن لا منتهى علاقات، وتأثيرات متبادلة، وخبرات مترسبة، بل وهواجس وخرافات أو أحلام ورغبات، بحيث يستحيل تماما منهجة وعي جمعي، وأقصى ما يمكن أن تقدمه جميع العلوم الحديثة، ذات العلاقة هو (افتراض) سمات ومسارات مشتركة وردود أفعال شائعة، لكنّها أبدا لا تكتسب صفة اليقين.
ومن هنا أيضا كان بروز أهمّ ما يميّز الوجود الإنساني، وهو الفردانيّة.
عند وضع ما سبق كمنطلق، ثم التطرق بعدها إلى (آلية) تحقق الإشباع الجنسي الإنساني، يمكن لنا بسهولة إدراك أنّ فعل اللذة، هو في حقيقته ممارسة وجوديّة أصيلة، تتعدى محاولة اجتلاب تلك اللذة، لتصبح محاولة (لا واعية) لتحقيق الوجود نفسه، كأيقونة تبقى ملحة وخفية خلف مشهد الوعي والتجربة الحسيّة.
بعبارة أخرى.. فإنّ الذات الإنسانيّة تقوم أثناء نزوحها للذة باختبار ذاتها، بكل ما تحويه من خبرات سابقة واقعيّة، أو نظريّة، بل وأنساق فكريّة، ناهيك عن مكبوتات أو رغبات أو ممارسات مألوفة يتم الرّكون إليها.
هذا الانفعال الذاتي، لا يكون واعيا بطبيعة الحال، ويتميز بالسّيلان والتلقائيّة، وهي هنا حالة كاملة تخلو من أسلاك الفراش الشائكة، بينما يكون في وجود أي خلل بها ظهور لقيمة التابو.
تابو الجسد، هو ذلك الفشل في “انسكاب” الذات الإنسانيّة بكل مكوناتها المتشابكة والمعقدة من خلال الفعل الجنسي، بحيث يطل الوعي كرقيب سخيف على لحظة الانعتاق الأكثر خصوصيّة بالتّجربة البشريّة، فيبدأ الإحجام أو التردّد أو التنازل أو المفاضلة أو قرع الحسابات.
وهذا نفسه يكون مرتهنا بالعديد أيضا من الأسباب المتشابكة، الذي يدخل من ضمنها بصورة رئيسة خبرات سابقة، أو نتائج متوقعة، أو انشغال بالآخر على حساب الأنا، والعكس أيضا، أي انشغال بالأنا على حساب الآخر بحيث يتحول التناغم إلى (سباق اقتناص) يؤدّي في النّهاية إلى عدم وجود فائز، بل فشل جزئي متبادل، يتم التعويض عنه بالاكتفاء بالنّهاية الميكانيكيّة البحتة مع معاونة مضللة من الوعي، بترسيخ ذلك فكريا أو تراثيا أو اجتماعيّا.