في «استيهامات العاشق الأوحد» لنور الدين ضِرَار

الصدر العاري والقانون الأبوي

لا يحتاج قارئ ديوان الشاعر المغربي نور الدين ضرار «استيهامات العاشق الأوحد» (منشورات ورشة، الدار البيضاء، المغرب 2021) إلى معرفة مخصوصة أو لغة نقدية متميزة من أجل الحديث عن الخلفية الاجتماعية والتاريخية للعمل الشعري، أو إثباتِ صدق القصيدة وواقعية المضامين، أو طبيعةِ التركيب أو حضورِ الإيديولوجيا التي يبدو أن الشاعر قد تخلص منها أو أخفى ثوبها؛ بل تكون الحاجة فقط إلى خيال وجمال شاعري. إن الحديث عن الشعور والخيال المرتبطين بالنسيب بالتنظير الجاف الذي تَبّثَه الزمن فأصبح جزءا من لغة الإدراك العادي قسرٌ وعنفٌ، وإن شئنا استعرنا تعبير «ميللر « بحكم أن القراءة المجازية الصحيحة هي التي ترى هذه الأشعار خيالا أكثر منها محاكاة. لذا توجد عادة لذة حقيقية في اكتشاف نص يتحدث عن الحب بأسلوب ينطوي على صدمة ممكنة، بل ضرورية. فالذي يهيّج الخيال ليس فكرةً مجردةً أو معزولةً، وإنّما الصور والمناظر التي تستدعي خيالاً انفعالياً لتصويرها في جمل قصيرة أو خاطرة كما فعل بودلير مثلا في وصف النافذة.
إن الشاعر المغربي نور الدين ضرار يرسم في استيهاماته صورا ذهنية خاطفة ومتقابلة، تأسست عن وعي بأنساق موضوعه عاشقا أوحد. يتبدى ذلك في طموح العاشق العثور على اتحاد، ولو بصيغة الحلم، وهو ما لا يتحقق نتيجة نسق دنيوي صارم، تحكمه تضادات انفعالية لا يجد لها قرارا: (سماء /أرض، حب/كره، عفة/خيانة، اتصال/ انفصال، مقدس/ مدنس). كما أن نور الدين ضِرار يُرَكب في نفس السياق شريطاً من الصور الشاعرية، تفتح طريقها من جنة الفردوس إلى صدر أعظم؛ الصدر العالي، الضاري، الهامي، البهي، الفتي، النبي، الصبي.. شريط يتغذى من بوح لا نكاد نقبض عليه حتى ينفلت. تنسج كلماتُ العشق وإيماءاته استفزازاً لا يحتمله الوجودُ الأرضي، فيكون الحبَ، في هذه الحال، شبيهاً بالموت.

1 – الحب من الخليقة إلى الخطيئة:

«الحب أعزك الله، أوله هزل وآخره جد»، هي عبارة شهيرة لابن حزم يمكن تأويلها ثقافياً بالوعي المعرفي لنسق الانتقال في الحب، إنها إدراكُ وعي أو قيمةُ ثقافيةُ للحب، تواضع عليها الناس بحيث تأخذ سلطتها من إجماع الجمهور، ولذلك من الضروري لنسق الحب أن يتمثل صيرورة التحول ليكون له معنى. ومن ثمة، فإنَّ الحب عند نور الدين ضرار متحول من فكرة قبل الخطيئة، إلى نسق بعد الخليقة، وبين الخطيئة والخليقة شريط من الزمن الأزلي؛ فيه رؤيا، وحلم، وخيانة، وقبلة، ويد عاشقة، إلى بكاء على الصدر الأعظم. هكذا كان الحبُ غَوايةً ثم صار خطيئة تستلزم أن يغادر العاشق المكان (الجنة) الآسرَ بفردوسه الممتد على طول المدى إلى أرض مدنسة. يقول الشاعر:
«حتى قَبلَ أن تَكونَ
هذه الأرضُ عالقةً
بأهداب السماء،
كنا معا،
في سِفر الغيب،
بِبَالِ اللهِ
خاطرةً مُلهمَة..» (ص6)
هنا يغدو التواصل في الحب عموديا وأفقيا (سماء /أرض)، حيث ينزع العاشق القناعَ، بعد الخطيئة، محاولا مداواة الجراح والذكرى المريرة «ذكرى الخطيئة الأولى»، وحيث الحب في الأفق العمودي (السماوي) أصلي، ولكنه متناه، بينما في الأفق الأرضي (الأفقي) غير متناه، لكنه محرّم، تحمّل فيه العاشق وزر الخطيئة «والرقيب الاجتماعي»، فتصْدر بسمة التسامح والإشفاق عن حق أو باطل، لخطف لحظات إيروسية؛ لحظات يندثر صداها حلما، حين ألفت الذات العاشقة الاحتراقَ بشواظ من النار تتقاذفها ريحُ الزمن العاتية.، وكأنها شعلةٌ متأججةٌ بالعواطف غير المكتملة.
إن الحب ينتهي بالعاشق بشتى تمظهراته في آخر المطاف مهزوماً ومخذولا، ويجعله كائناً هشاً سريع العطب، يصعب حمايته من الكسر والنسف، فيصبح الراهنُ جسراً للعبور إلى الزمن الماضي أو زمن الأحلام اللامتناهية، زمن العشق السرمدي. يقول الشاعر:
«والآن ..
ما مِن مَرقاةٍ فَوقَنا،
كي نجنحَ أبعدَ مِنَ الأرض،
أو نعودَ إلى السماء،
وحدنا في هذي الغبراء،
نذرعها غريبين في زحمة الغرباء،
أحفاداً من سلالة التراب ونُذرِ الفناء،
كما المنافي من أرضٍ لأرض،
كما الموتُ جسداً في جسد..
وما سوانا للنفي والموت من أحد..» (ص26)

2 – الخيانة واضطهاد النسق:

تختفي التفاصيل الحميمة كلما تباعد المحب عن المحبوب، والإنسان يستعيد كليته حين يتجزأ. لقد تجزأت الذات العاشقة بين السماء والأرض، والتحولات التي حدثت بين السلاسل التاريخية المطلقة وغير المتصلة، شكّلت أرشيفا لصورة الحب أو «لا وعيه الموجب»، من سر التجسيد الأول إلى الخيانة، إلى آخر عناق منفلت من قبضة الدنس الدنيوي. والخيانة هنا تنفيس عن المكبوت والحرمان، نتيجة الغدر والإلحاح على ارتكاب الخطيئة، ونتيجة اضطهاد النسق الاجتماعي. وإذا زدنا في إدراك المضمر في هذه العلاقة من الناحية الثقافية، لوجدنا أن البكاء على الصدر الأعظم، في نهاية الديوان، علامة على الفشل في تحقيق الوصال على النحو الذي ترومه الذات العاشقة. يقول الشاعر:
«جسدا في جسد
قالت له:
«أخاف بعد مخاضي
ألا تبقى في حياتي
وحدك
الواحد
الأوحد..» (ص 32)
«جسدا عن جسد
قال لها: إليك عني
شُغِلت عنك
دون الخلق بنفسي،
وبعد اليوم
لن تدخلي معي
جناتي الموعودة..» (ص33).

3 – الصدر العاري والقانون الأبوي:

يشكل الصدر مادةً رمزية «فرويدية»؛ فهو يتضمن كبتاً لمحركات الغريزة الجنسية ما قبل «الأوديبية». إن المحركات ما قبل الأوديبية ترتبط بصدر الأم، بثديها الحسي، حيث النزعةُ الجنسية ترتبط به ارتباطاً وثيقاً يمثل مصدر أمن وطمأنينة. تتشكل هذه الصورة في الديوان الشعري في زمن ما قبل الخطيئة، حيث كانت المحبوبة نقطة من صلب المحبوب، أما في مرحلة «الأوديبية» المؤسسة على الأخلاق وما بعدها، أو ما يسميه فرويد» القانون الأبوي»، فقد صارت الرغبة المكبونة كامنة في اللاشعور، مما يجعل الذات العاشقة منقسمة انقساما جذريا؛ بل إن قوة الرغبة هي عينُها اللاشعور، وهو ما يفسر حالات تمزق الذات العاشقة؛ فيغذوا الصدر العالي نهاية محتمة وتفاحة آثمة، والصدر الضاري سرُ الهزائم بألف بيْرق وملحمة، والصدر البهي مأوى النهايات في البدايات العاثرة. هذه الصور تحيل إلى تشتت في الهوية وفقدان التلاحم:
«صدرك البهي
مهوى النهايات
في بداياتي العاثرة..ّ»
«صدرك الشهي
مثوى الصّباباتِ
في ضلالتيَ المستهامة..»
«صدرك الضّاري
سرّ هزائمي
بألف بيرق وملحمة..» )ص61: 64،65)

4 – التمرد على نسق المقدس:

من الظاهر خَرقُ الشاعر نَسَقَ المقدس في ديوانه الشعري، فالانتقال من العالم المقدس (الجنة) إلى العالم المدنس (الأرض) زاد من تشبث العاشق بالخطيئة. وإلحاحُه على هذا الخرق دالٌ على نشدان المتعة وإرضاءِ الهوى والعشق الشهواني، والرغبة في تدمير سلطة العفة التي تتأسس على صدقِ العاطفة وصدقِ العقيدة:
«اليد العاشقة،
عين رائية،
تحت جنح الليل
تستبينُ
انعراجات الأعالي
وانحدارات الهاوية..» (ص43)
لقد تغنى الشاعر العذري بأشواقه وأشجانه، ويجد هذا الغناء صداه في ضمير الجماعة. فكانت العفة والرقة ولطف المعاملة في تعامل مع المحبوبة صفات تميز بها الشعر العذري، والعفاف حسب السنجلاوي: «كلمة واسعة ولا ينبغي أن تطلق إطلاقاً عاما، ومدلولها لا يتضح إلا في الشعر، فالعفاف ربما كان عفافاً عن شيء آخر، وربما كان عفافاً عن الجسد من أجل الخلود في الفن». وحالُ الولهِ هو أقسى ما يمكن أن يصله المحب، والعاشق، هنا، لم يصل إلى درجة الوله الذي يمكن أن يحُول دون حدوث خرق لنسق المقدس بالخيانة وتمجيد الجسد العاري.
وإذا تأملنا صورة المحبوبة في «استيهامات العاشق الأوحد»، نجدها وحيدة وإن اتخذت ألوانا، هي حواء ولدت في الجنة. والعاشق أطلق اسما عاما على محبوبته، ومجّد جسدها، وهو ما جعله العاشقَ الأوحدَ، دون غيره. فهل وقع الشاعر، هنا، تحت سلطة «نسق الخطاب الذكوري» السلطوي تجاه المرأة، أم أن ذلك وعي قاهر يصر على الانتقام منها؟ أم هي مجرد حالة تطهير من دنس الخطيئة بالحنين لعاطفة مشبوبة، في زمن ما قبل الخطيئة؟
هكذا نخلص، إذن، إلى أن الشاعر نور الدين ضرار حاول أن يفتح زمن الحب بولع غادر، فالحب ضرب من الغدر ، وكأنه يقترح علينا مخرجا آخر غير هذه الهاوية التي ليس لها قرار، مع محبوبة منفلتة من عالم مقدس وصارت حلما في عالم مدنس. إنها روحُ طاهرة أصابتها لعنةَ الخطيئة وهي مضرجة في الغواية، فتنزل إلى الأرض المدنسة، وتأخذ في تمثله لصورتها صورا أخرى: ضائعة، غريبة، وضليلة تحمل أوزار خطيئتها بأقنعة من سجيل وبأكف من دهشة وطين..


الكاتب : د. حميد الغشاوي

  

بتاريخ : 09/07/2021