هل تدق ساعة الحقيقة؟

محمد بودويك

لا تقاس قوة حزب أي حزب، بما تمتلكه أطره القيادية من «كاريزما» لغوية مفتولة، وخطاب منمق ومزوق، ولا مما سطره من برامج تاكتيكية واستراتيجية للنهوض بالقطاعات الاجتماعية، والمجالات الخدماتية المتدهورة، ولا بفائض الثرثرة، ومستحيل الأحلام، وعصيات الأماني. قوة الحزب وصدقيته تأتي من قدرته على تصريف الكلام إلى أفعال، وترجمة الخطاب إلى إجراء عملي، يقيس الاسم على المسمى.. يضع الواقع في الاعتبار، والإمكان قيد الدرس والتجربة، ويلجم التجاوز متى ما ظهر أن واقع الحال يكذب ديباجته اللغوية، وتحبيره السياسي، ورهانه الإيديولوجي.
ولكي نضع برنامجا حزبيا مدققا يراعي الواقع والإمكان، يتعين أن نتحوَّطَ من الاندفاع السياسوي اللحظي، والتحدي الفارغ الذي يستدعيه التنابز والتنافس اللفظي. يتعين أن نتقوى بالمثقفين الحزبيين، بطليعة الكوادر المنتمين إلى الخط السياسي الحزبي العام، المقتنعين برؤيته ومرجعيته وفلسفته ومبادرته. وليس غير المثقفين العضويين مَنْ هم أهلٌ لتدقيق الأفكار، وتقييس الأشبار والأمتار. فالسوسيولوجي، والأنثربولوجي، والمتضلع في علم السياسة والقانون، والجغرافية البشرية، والمؤرخ، ومنتج الأفكار، والكاتب والأديب، وتطبيقاته في حال تقلده مهام التسيير، وإدارة الشأن العام، شأن البلاد والعباد. ذلك أن السياسة بمعناها الضيق، بمعناها التدبيري اليومي، عابرة، سرعان ما تتبخر في أتون الصراعات الأطرافية، والمستجدات الظرفية، والطوارئ الإقليمية والدولية المباغتة.
أما الثقافة السياسية فأساسها النقد البناء، وبنيانها التصحيح والتقويم، ووزن الخطى والحراك بحسبان الاشتراطات والاقتصادات الهشة، والانحباسات المفاجئة، ومجريات الواقع، وبندول التقلبات، وفرملة تطبيق البرنامج من لدن من يخاف تخطي الحد الممنوح، والحرية المخطوبة، والخطوط الحمراء. أما الخطوط الحمراء فليس غير النبش في ما ينبغي النبش فيه: في سر استئساد عصابة، واسْترْناَب مع اسْتيطاء أخرى، ما يعني طرح مسألة العدالة الاجتماعية، والحق في الثروة الوطنية، والمساواة التامة أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، على مائدة الحوار، وإشعالها لجهة وضع حد للاحتكار، و«الكومبرادور»، و«الأوليغارشيا». وفي هذا ما يشي بأهمية وقيمة الحزب العضوي، الحزب المرفود بنهر الفكر الحي، والسياسة «النفعية» الإيجابية التي تصب في صالح السواد الأعظم من المواطنين، في صالح المستضعفين، والعاطلين عن العمل، والمهمشين المبعدين عن منابع الرزق، والمواتي من ظروف الاستحقاق، ومراقي العمل الرفيع الذي يقوم على أكتاف الكفاءة والعلم والنجاعة. ولا نعدم أفرادا ذوي مؤهلات معتبرة في بلادنا حال دونها من نعتناهم وننعتهم بسارقي الفرص، ومُسْتَفْرِصي الظرفيات، المؤازرين بعوائل معينة ضاربة بأسهم بعيدة في «الحسب» و «النسب»، والجاه، والمال. تلك العوائل التي تربض وتجثم كالعنقاء الأسطورية على جسد البلاد الهش، جسد البلاد المخرم الذي لم يتركوا ثقبا فيه إلا ولجوه، ولا ضَرْعا إلا حلبوه.
ما نَحِنُّ إليه، هو عودة الحرارة السياسية إلى المشهد السياسي المغربي العام، ومعرفة رأي الأحزاب القوية الاشتراكية واليسارية، والليبرالية حتى، في الملفات الحارقة المطروحة بإلحاح في الساحة، والتي ترهن حاضر البلاد وغدها، الملفات الاجتماعية، كهذا الانحباس الغريب الذي يشهده النظام التربوي التعليمي بالبلاد، والصحة العمومية من حيث نزولها عن المعدل التنموي التطوري قياسا بمن هم في صفنا أو بمن هم أدنى منا والذين حققوا طفرة هائلة في حل معضلة التعليم، ومعضلة الصحة العمومية، وانسداد ملف الحوار الاجتماعي بدعوى الظرفية المالية والاقتصادية والوبائية.
نعم، للجائحة المزلزلة يدٌ في التراجع والمراوحة والانحباس، ولكن التراجع العام على مستوى جل القطاعات الحيوية، سجلناه قبل حلول الآفة الوبائية التي فاقمت، بطبيعة الحال، من ذلك التراجع والركود.
أما آفة الأمية فهي في تَنَامٍ واعتياش بدليل الهدر المدرسي الصاعق الذي يستمر غير مكترث للكلام الكثير، وغير آبهٍ بالمديريات والأقسام والمصالح المركزية والجهوية، والإقليمية التي ما فتئت تدق ناقوس الخطر، وهي تنشر المعطيات والأرقام الكاشفة لهذا النزيف الاجتماعي الخطير الذي يهدد حاضر ومستقبل البلاد بتنمية طابور الأميين، وتنمية الجريمة بالتلازم المنطقي، والارتباط الجدلي.
فأين العدالة؟ أين التنمية كمفهومين وأقنومين، وقيمتين اجتماعيتين مشخصتين، ومبلورتين في الواقع المحسوس، وعلى الأرض الصلبة؟
ذلك أن العدالة والتنمية كحزب، كإطار سياسي إسلامي، كجمعية عمومية، كتسمية براقة، وواقع متصرف يُسَيّر ويدبر، فشيء آخر تماما. إذ العدالة فيه، والتنمية لديه، موجودتان بقوة الخطاب الإيديولوجي الإسلاموي، والاستشهاري لفائدة الخط والتيار، وبقوة التصايح والتلاطف، والزعيق والليونة، واللطائف والقفشات، والتلفيظ المجاني، والتهديد بفضح الفساد والمفسدين، والتراجع عنه قبل أن تغيب الشمس.
العدالة والتنمية كحزب موجود بالفعل، بفعل النزوع الديماغوجي والتبسيطي، والاندماجي الشعبوي «الذكي» مع الناس، مع الشريحة الأكبر من البسطاء سريعي التصديق، والإيمان، والاستدراج. موجود بفعل التدين، الموظف، واتكاء خطابه على السور والآيات والأحاديث، والحمدلة، والبسملة، والحوقلة. علاوة على المواظبة والمثابرة على إقامة الصلوات والنوافل، وحضور الجنائز، والمولديات، والأسمار الأورادية، والأذكار. هذا من علائم الظواهر، والله أعلم بالسرائر.
موجود، أيضا، بفعل «نية» طبقة متعلمة، لا تعمل بالنقد الخلاق، ولا بالشك والسؤال، ولا تستشرف الآفاق مقارنة ومقايسة. إنها تنأى عن صداع الرأس، وتصم الأذان عن الخطاب الموصوف ب «العلماني» الذي «لا يؤمن» ـ كما يزعم المناوئون ـ باليوم الآخر، ولا بالحور العين. إنه خطاب جاف دنيوي حصري لا يقدم أملا، ولا يفتح أفقا نحو الطُّوبَى، وجنة الفردوس.

فشل حزب العدالة والتنمية في أجرأة خطابه على علاّته، وبرنامجه الانتخابي منذ عشر سنوات. وهو فشل سياسي واجتماعي، وثقافي، وأخلاقي، بقدر ما هو فشل مرحلة من عمر البلاد، وعمر العباد. ولئن كان فشل الحكومات السابقة متأتيا من محدودية السلطات والمبادرات في ظل ملكية تنفيذية لها الكلمة الفصل في جميع المجالات، وفي ظل دستور كبح اجتهادها وبرنامجها، فإن فشل الحكومة الحالية والتي قبلها التي يقودها حزب إسلامي، غير مبرر البتّة، لأن الدستور المستفتى عليه، فيه من الاختصاصات والصلاحيات والسلط، ما يُمَكِّن الحكومة من تصريف برامجها، وتطبيق بعض اختياراتها، وما يجعلها تنهض بالأوراش الاجتماعية، والاقتصاد الوطني، وبالعيش الكريم لكافة ساكنة البلاد.
وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ أحجمت الحكومة، وحزب العدالة والتنمية، عن إطلاق التنمية العامة لتشمل كافة القطاعات، وهي القطاعات الضامرة التي تشكو من هزال، ومرض عضال؟ أم أنها جاءت لتضحك وتمشي، لتملأ الماعون شعيرا وقمحا وفيرا، وترحل هانئة به، سعيدة بما حازت يداها منه بذاراً لبنيها وذريتها وأهلها، ودرهما أبيض ينفع في اليوم الأسود؟ وكان بالإمكان اهتبال الزمن قبل أن تحل الجائحة لتطفئ وعودا كاذبة، وتعري نماذج تنموية قطاعية واستراتيجية هشة ومختلة.
ولا شك أن حال حزب العدالة والتنمية، الذي ينوء تحت اسم أكبر منه بما لا يقاس، والأوسع من ضآلته بما يستحيل الإمساك بأطرافه وتلابيبه، هي حال ساطعة من العجز والعيِّ، والدوران في الفراغ كطواحين دونكيشوط.
فأين التنمية المُدَّعاة إذنْ؟ وهل توجد في مئات القفف والسلال، ومن تحتها، تلك التي تساق إلى ” الغلابة” من رجال ونساء شعبنا؟
أين التنمية؟ ما خَطبُها، ما علائمها ومياسمها؟ أرى أنها لم تعرف طريقا إلى المواطن والوطن، ما خلا أوراش ملك البلاد الذي يشرف على الاتفاقيات الكبرى، والشراكات الحيوية الاستراتيجية. وهي أوراش تفاجئ الحكومة الراكدة التي لا أجندة لها، ولا برنامج عمل مدقق، ولا مشروع معلق يتغيى التكملة، وإغناء الأوراش الملكية، وسد الخصاص، ودفع غائلة الهشاشة والإهمال عن جهات وقطاعات قد لا تطولها يد الملك؟
أين التنمية الاجتماعية والثقافية، والسياسية، والحقوقية، والتعليمية، والبيئية؟ أيْنَها؟ ولِمَ حَرَنَتْ وشَمَسَتْ منذ سنوات، وهي المدة التي سلختم في تدبير شؤون الناس والوطن؟ أم تنتظرون فرصة خَمْسية أخرى للغناء والاغتناء، إذ بانَ أن الأمر ليس بيدكم، وأن التنمية قد تأتي من أي جهة إلا جهتكم؟
سننتظر إعمال البرنامج التنموي المُزَكّى من قِبَل الملك بعد أن فشلتم في بلورة نموذجكم التنموي الذي وعدتم به المواطنين في أثناء حملتكم الانتخابية، وفي أثناء مَسْكِكُم بمقاليد الحكم والتسيير، والحال أن الدستور، والوضعية العامة قبل اليوم، يَسَّرَا لكم ترجمة الوعد إلى واقع، والحلم إلى حقيقة.
فهل لديكم، فعلا، برنامج وخطط، وسياسة تنموية بنيات واضحات مرتكزة على تفكير وتحليل واستقراء واستقصاء، وراءها نفرٌ ذو دراية وإدارة وعلم وكفاءة، وكاريزْما رجال دولة؟ فلماذا لم تطبقوها وتترجموها إلى ماء وغذاء وصحة معتبرة، واقتصاد قوي، وتعليم قويم، وتشغيل، وتقليص الهوة الاجتماعية بين الفئات والطبقات، وإحقاق الحق، ودرء الفساد؟

الكاتب : محمد بودويك - بتاريخ : 10/07/2021