يتوسَّل العقل التدميريّ، في صبغته العربية والإسلامية المتطرِّفة، شتّى الوسائل لتحقيق نفعيته التي تسم مجمل أشكال تداوله في الواقع اليوميّ انطلاقا من القاعدة الشهيرة «الغاية تبرّر الوسيلة».
وتحت عناوين من قبيل “التكليف الشرعيّ”، و”ضرورات الجهاد”، و”الدفاع عن الدين والأمّة”، و”الظفر المؤزَّر بالجنَّة”، يلجأ دعاة هذا العقل إلى استنفار كلّ الموارد البشرية المتاحة، وعلى نحو سافر، من أجل تحقيق الهدف المقيت الذي ينشدونه، ومن ذلك توظيف المرأة كمورد بشريّ ناعم Soft في برامجهم القتالية، وهو التوظيف الذي أمسى مؤشّراً كارثياً في عالمنا الراهن إذ أنّه يجعل من الجسد النسويّ الناعم وسيلة لقتل البشر من جهة، وتفجير كينونته من جهة أخرى، فبدلاً من أن تكون المرأة مصدر خصب للحياة والوجود العامّ، تمسي وسيلة مجدية لتدمير الحياة البشرية ووجودها الخاص معاً.
منذ القدِم، كانت المرأة شريكاً للرجل في بناء الحياة. وكانت عضواً فاعلاً في الحركات النضالية والتحرّرية عبر مراحل عدَّة شهدها العالم الحديث، خصوصاً في عقود القرن العشرين التي صارت المرأة فيها، فضلاً عن ذلك، جزءًا من منظومة الدفاع عن قضايا التحرّر. ففي عام 1978 كانت الفتاة الفلسطينية “دلال المغربي” قد قامت بعملية فدائية ضدّ الجيش الإسرائيلي، وكانت بذلك الأنموذج النسويّ العربي المبكِّر الذي يوظِّف الجسد النسويّ في عملية فدائية، لكنّ استشهادها والتمثيل بجثّتها قد بعثا الإحباط في نفوس دعاة التحرير من توظيف المرأة ثانية في هذا المجال، في حين عدَّها بعض المحلّلين بادرة ستقود إلى محاولات تالية، وهو ما حصل بالفعل بعد سنوات، وإن تأخّرت قليلاً.
في أتّون الحرب بين الشيشان والروس، كان المشهد أكثر وضوحاً حول توظيف الجسد النسويّ في التفجيرات الانتحارية؛ ففي 28/9/2007 قالت “فريال لغاري”، الباحثة في شؤون الأمن الإرهاب، لبرنامج “صناعة الموت” الذي تبثّه “قناة العربية”، وتقدّمه الإعلامية الجريئة ريما صالحة: “عندما نتأمَّل الحالة الشيشانية، سنجد أن نسبة 42 % من عمليات التفجير الانتحاري نفّذتها نساء”. وأكَّدت أيضاً أنّه، وخلال “الفترة من 2002 ـ 2006، كانت أوّل عملية تفجير انتحاريّ قد نُفّذت بواسطة امرأة، تلك المرأة كانت في التاسعة عشر من عمرها، وكانت تلك حالة فريدة، لأنّها مثَّلت نقطة تحوُّل في عملية التفجير الانتحاريّ”. وربّما تكون تلك الفتاة من جماعات ما يعرف في الشيشان بـ”الأرامل السود”، تشبيهاً لهنّ بنوع من “إناث العناكب”.
في مطلع تسعينات القرن الماضي، وبينما كان “الأفغان العرب” يتدرّبون في معسكرات طالبان بأفغانستان، كانت مجموعات من النسوة الفلسطينيات من مدينة غزّة قد التحقن بأزواجهنّ الفلسطينيين. وهناك تمّ تجهيزهنَّ للتدريب العسكريّ؛ تدريبهنّ على بقر بطون الحيوانات وحشوها بالموادّ المتفجِّرة، ومن ثمّ تفجير تلك الحيوانات عن بُعد.
وفي هذا السياق يعتقد بعض المحلّلين أنّ قادة طالبان ما كانوا يثقون بقدرة المرأة على قتال من هذا النوع (1)، ولذلك ما كانوا يحبّذون تدريبهنّ، لكنّ اختيار النساء لعمليات قتال انتحارية ستروق لأجيال أخرى ممّن درّبتهم طالبان، ومن ذلك جيل أبو مصعب الزرقاوي، بل الزرقاوي نفسه، الذي وجد ضالّته في النسوة الانتحاريات لتحقيق مآربه الجهادية ذات الطابع التدميريّ الشامل التي جرّبها في العراق بعد انهيار نظام صدام حسين.
كانت تلك بشاعة ممجوجة لدى أولئك النسوة؛ فما كان يمكث في نفوسهنّ هو القناعة بأنهن كائنات ولدن للخلق والنماء، وأنّ مشاهد موت الكائنات بفعل ما صنعته أناملهنّ ليشي بقهر ذواتهنّ وتشويه نفوسهنَّ الرقيقة. إلا أنّ تذمرهنَّ لم يغب عن بال تلك الثلّة الضالة من فقهاء الموت في طالبان، والتي ترسم للتدريبات العسكرية أطرها الفكرية والعقائدية والأيديولوجية التبريرية، فرُحن، (أولئك النسوة) يتلقّين محاضرات في ضرورات الجهاد، والحطّ من قيمة أجسادهنَّ مقابل جماليات الجنَّة الموعودة، وما أشبه من أفكار تهدف إلى تقبُّل النسوة لفكرة الجهاد، ولطريق الموت بالانتحار.
مع ذلك، ما كانت استهانة دعاة العقل التدميري بالجسد النسوي الناعم تلقى ذلك القبول الكلّيّ لدى النسوة زوجات المجاهدين، بل كان بعضهنَّ يرفض البقاء في المعسكرات وهنَّ معزولات عن أزواجهنّ، وسط إحساس يحدوهنَّ بأن وجودهنَّ قريبات من أزوجهنَّ سيحدّ من عزائمهم الجهادية كما كان يشيع ذلك فقهاء طالبان. وعندما رجعن إلى غزّة، وبعضهنَّ ذهب إلى دول الخليج العربي بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، تكون الأمور قد هدأت، لكننا لو نظرنا إلى حالات الجهاد الإسلامي “كتائب شهداء الأقصى، وحركة الجهاد الإسلامي” (2) ضدّ الكيان الصهيوني في فلسطين لوجدنا عدداً من الانتحاريات اللواتي كنَّ مستعدّات لتفجير أجسادهنّ في أيّ موضع بإسرائيل، وكان ذلك يستمدّ مدده من تجربة النسوة الأوائل اللواتي ذهبن إلى أفغانستان من جهة، ومن تجربة الانتحاريات في الشيشان اللواتي كنَّ السبّاقات في توظيف أجسادهنّ بالعمليات الانتحارية. ما يعني أنّ ثمّة سياقات ثقافية أصبح لها تراثها لأيّ تطلُّع متطرِّف من شأنه توظيف النساء في عمليات من هذا النوع.
وكلنا يتذكَّر مجموعة الفتيات الفلسطينيات اللواتي فجَّرن أنفسهنّ في أزمان مختلفة بين عامي 2002 ـ 2004 مثل: وفاء إدريس/ 26 عاماً، ودارين محمد توفيق أبو عيشة/ 22 عاماً، وآيات الأخرس/ 18 عاماً، وعندليب طقاطقة/ 18 عاماً، ونورا جمال شهلوب/ 15 عاماً، وهبة سعيد دراغمة/ 19 عاماً، وهنادي جرادات/ 28 عاماً، وريم صالح الرياشي/ 22 عاماً، وسناء قديح/33 عاماً، وزينب علي عيسى أبو سالم/ 18 عاماً.